فرحة الإفطار

 

(فرحة الإفطار)

بسم الله الرحمن الرحيم

كلنا قد طرق سمعه قولُ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: ((للصائم فرحتان؛ فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه))، والمتبادر لدى الكثيرين من المقصود بالفرحة عند الإفطار هو فرحة الصائم بذهاب ألم الجوع والعطش بما يتناوله من الطعام والشراب.

وهذا واحد من وجوه الفرحة التي تحصل للصائم بالفطر، وهناك أوجه أخرى للفرح تتفاوت بتفاوت مشاهد الصائمين وأذواقهم في معاملة الله بهذه العبادة، وقد علم كل أناس مشربهم.

هناك من يفرح عند الإفطار بنعمة التوفيق؛ فإن الصيام بحد ذاته نعمة يكرم الله بها الصائمين.

أن يرتضيك الله تعالى لعبادته، ويقدرك عليها، ويحببها إليك، ويعينك على تمامها هذا كله من علامات حبه تعالى لك.

هناك أناس كثير ما أدركوا هذه النعمة، فبعضهم تمنى أن يصوم أيام هذا الشهر فاخترمته المنية واختطفه الموت قبل أن يحل الشهر، وبعضهم يتمنى أن يصوم أيام الشهر ولكن حالت بينه وبين الصيام الأمراض والآلام، فكم من المسلمين على أسرة المستشفيات وعلى فرش المرض يودون مشاركة الصائمين شرف القيام بهذه العبادة ولكنهم لا يستطيعون، وهناك الكثير ممن أدركوا هذه الأيام وهم بعافية كاملة وصحة تامة ولكنهم ابتلوا بالإعراض عن الله فأفطروا بلا عذر وبارزوا الله بمعصيته، وأنت صرف الله عنك كل العوائق فمد في عمرك ومتعك بالعافية ثم ارتضاك للعبادة وحفظك من الإعراض عنه والوقوع في معصيته، فمضت عليك ساعات النهار كلها وأنت واقف على باب طاعته، متمسك بأذيال عبادته، حتى إذا رأيت الشمس قد غربت وأنت على هذا الحال وجدت أنك انتهيت من استلام نعمة هذا التوفيق الكريم من الرب الكريم!

أليس في هذا ما يستدعي الفرح، ويتسبعث منك السرور وقت الإفطار!

وهناك من يفرح عند الإفطار بالدعوة المجابة الموعود بها للصائم عند فطره.

وهناك من يفرح عند الإفطار بحلاوة الضيافة الإلهية!

نعم، الضيافة الإلهية!

إن الصيام جاء ليذكرك بأنك ضيف على الله في هذه الدنيا لا تملك مع الله شيء، وإنما تتمتع بما يجعله في يدك بمحض ضيافته وكرمه، لا لأنه حقك وملكك، ولهذا أنت تمتنع عن الطعام والشراب في نهار رمضان.

لو رآك شخص وأنت تكتب بقلمك فقال لك: يمنع منعا باتا أن تكتب بهذا القلم، فإنك مباشرة تقول له: وهل القلم ملكك حتى تمنعني منه؟

وهذا يعني أنه لو كان ملكه فإنك ستطيعه وتمتثل أمره.

وأنت تجد الطعام والشراب في نهار رمضان وأنت محتاج إليه ولا تمتد إليه يدك، لماذا؟

لأنك ممنوع منه، ولماذا امتثلت أمر الذي منعك؟

لأنه يملكه، فهو الذي له الحق أن يتيح لي أكله متى أراد ويمنعني منه متى أراد، فالطعام طعامه والشراب شرابه والذي آكله طول العام متى أردت إنما كنت آكله لأن مالكه أذن لي بأكله، لا لأنه ملكي، ولهذا لما منعني مالكه الآن امتنعت.

فما الذي يحصل عندما تغرب الشمس؟

الذي يحصل أن صاحب الطعام الذي منعنا منه أذن لنا مرة أخرى بتناوله.

وهذا الإذن الإلهي بحد ذاته له حلاوة خاصة وذوق خاص.

تخيل نفسك عندما تكون مدعواً لدى شخص عظيم في عينك، وتحبه محبة شديدة، فتراه يكرمك ويقدم لك المائدة يقول لك: تفضل!

ألست تفرح بضيافته وكونه هو الذي قدم لك أكثر من فرحك بالشيء الذي ضيفك به وقدمه لك!

ربما يكون الطعام الذي قدمه لك يمكنك أن تأكل مثله في أي وقت تريد، فليس فيه ما يدعوك للفرح، ولكنك تفرح بالمعطي وكونه أعطاك، بقطع النظر عما أعطاك إياه.

وهكذا أنت في ساعة الإفطار، مالك الملك وصاحب هذا الطعام جدد لك ضيافته وإذنه بالتناول وجعل علامة إذنه لك غروب الشمس، فاستشعِرْ هذا المعنى وتذوق به شيئاً من حلاوة (وَهْوَ ٱلَّذِيْ يُطْعِمُنِيْ وَيَسْقِين).

ولعل هذا المعنى هو السر في الأمر بتعجيل الفطر والنهي عن تأخيره؛ لأنه لا يليق بك أن يأذن لك صاحب الضيافة وتظل ممتنعاً!

ولهذا تكرر التأكيد على تعجيل الفطر عند تيقن الغروب مباشرة في أحاديث كثيرة وتأكد الحث عليه، حتى قالوا يستحب للمؤذن أن يفطر قبل الأذان، وإذا أدرك المغرب الشخص في الشارع يستحب له أن يفطر فيه ولا تنخرم به مروءته إلى غير ذلك.

ومما يؤكد هذا المعنى أن الفقهاء عللوا حرمة صوم يوم العيد بأن فيه (إعراض عن ضيافة الله)، هكذا قالوا.

أليس كل ما نأكله طول العام ضيافة من الله، فلماذا حرم الإعراض عن هذه الضيافة في يوم العيد فقط؟

لأنه يومٌ أكَّدَ عليك فيه صاحب الضيافة قبول ضيافته فحرُمَ الصوم، وعند غروب الشمس ندبك إلى تعجيل قبولها ندباً فكُرِهَ تأخير الإفطار، ومنعَكَ من رفض قبولها فحرُمَ عليك الوصال.

وهكذا تجد أنك في الدنيا ضيف على ربك تأكل من مائدته التي بسطها لك عندما يأذن وتمتنع عندما يمنع، وعند غروب الشمس في نهار رمضان يتجدد لك معنى من هذه الضيافة والإذن الإلهي، وتنفتح لك أبواب الذوق والفهم عن الله فيها بحسب قابليتك واستعدادك.

اللهم اجعلنا ممن فرح بك وبعبادتك وعاش على ذلك ومات عليه إنك ولي كل توفيق.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

كتبه: حامد بن عمر بن محمد بن سالم بن حفيظ

الجمعة 9 رمضان 1444هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مع ألفية التأليف

تسول الاحترام

لحظات الألم