مع ألفية التأليف
مع ألفية التأليف
بسم الله الرحمن الرحيم
مِنْ خير ما أوقفَتْنِي عليه يدُ التوفيق الإلهي في الأيام الماضية وأنا بأرض (إندونيسيا) الألفية البديعة المسماة ( التعريف والتثقيف بألفية علم التأليف والتصنيف ) .
وهي - فيما وقفت عليه - أول منظومة في علم مناهج التأليف وآدابه ، جادت بها قريحة أخينا الموفق المرعي بعين العناية ، إبراهيم أمين خليل الخليلي ، الذي تخرج من دار المصطفى قبل نحو سنتين ، بعد أن قضى فيه سبع سنوات يتلقى العلوم الشرعية، وهو من بيتٍ عريق في العلم والتربية ببلد ( مدورا ) .
والواقف على الألفية المذكورة يقضي من حسنها العجب ، وتتجاذبه مثارات التميز والجودة من كل جانب ؛ فقد اشتملت على جل ما يتعلق بالتأليف وآدابه ومناهجه وما اتصل به من مباحث ، مع ذكر الأمثلة والتطبيقات ، بالإضافة إلى ما تميزت به من سلاسة النظم ولطف التعبير وحلاوة الأسلوب وخلوه من أثر العجمة ، مع صعوبة الظرف الصحي الذي صاحب الناظم أثناء قيامه بالنظم ، ناهيك عن السبق العلمي الفريد في هذا الباب من العلم ، هذا كله مع صغر الناظم وحداثة سنه إلى غير ذلك مما ترى تفصيل بعضه في هذه السطور.
وقد بلغت أبياتها ١٤٥٧ بيتاً ، وقد التمست من ناظمها اختصارها بحيث لا تزيد على كثيراً على الألف حتى لا تعجز همم الطلاب عن استظهارها.
وسوف أسوق للقارئ بعض أبياتها وتراجم أبوابها حتى يقف على برهان ما ادعيته في صدر الكلام ، فأقول :
افتتح حفظه الله نظمه بقوله بعد البسملة:
الحمدُ للهِ الذي أنارا
بعلمه وسره الأفكارا
حتى تفتَّحت لنا الألبابُ
وانكشف الغطاء والحجابُ
سبحانه بيده التأليفُ
بين الورى وهو بهم لطيفُ
أنعم بالإيجاد بعد العدمِ
علمهم ما جهلوا بالقلمِ
صلى وسلم على من شُرِّفا
بين الأنام بأجل الإصطفا
وآله وصحبه الأخيار
من شرفوا بصحبة المختار
وبعد فالعلم أجل كنز
أنفس مال ودليل فوز
ولا يفوت القارئ التنبه لبراعة الاستهلال في قوله ( بيده التأليف ) وقوله : ( علمهم ما جهلوا بالقلم ) ، ثم قال في المقدمة ممهدا لمقصوده بأسلوب لطيف :
وتمَّ حفظُ العلم في الصدورِ
كما يتم ذاك في السطورِ
إذ عجزت عن حمله الحفاظُ
فناب عن حفظهم الألفاظُ
وقوله : ( الألفاظ ) أراد به النقوش الدالة عليها ، فهو من قبيل إطلاق المدلول وإرادة الدال.
وقال بعده :
لولا تآليف الْـمَلَا لضاعا
اَلْعلمُ فهو بالسطور شاعا
فهاك كنزاً يا فتى ثمينا
يكشفُ مسلكَ المؤلفينا
تُكْسَى به بحُلَّةِ التشريفِ
بدَرْكِ سرِّ القومِ في التصنيف
وتهتدي لمنهج الكتابَةْ
حتَّى تراه كاشفا حجابه
ويقتضي الوصول بالتيسيرِ
إلى سبيل الجمع والتحريرِ
ألفية نظمتها كَبِكْرِ
لم يخترعها قبلُ أيُّ فكرِ
جمعت فيها درراً مفترقة
منقولةً من ثقة إلى ثقة
لخصتُهَا من صحف الكبارِ
وأبطُنِ الكتبِ والأسفارِ
ولم تزلْ مسطورةً منثورةْ
فهاك نظمَهَا بأجلى صورةْ
والنثرُ أدنى للورَى وأجلَى
والنظمُ أجملُ لهم وأحلَى
فاظفر بنظمي إنه في ظني
أولُ منظومٍ لهذا الفنِّ
ثم قال مبينا نسبة هذا النظم إلى المؤلفات والمكتوبات فقال بتمثيل بديع :
تلك التآليفُ ثمارٌ يانعةْ
والنظمُ هذا كالأيادي الزارعةْ
يعني إن المؤلفات ما كان لها أن تتم لولا مناهج وأساليب تراعى فيها ، فهي ثمرة تلك المناهج ، وهذا النظم لَـمَّـا احتوى على مناهج التأليف وآدابه .. كان بمثابة اليد الزارعةِ ؛ لأنك بالإلمام بما فيه من آداب التصنيف والارتياض بمزاولتها تصبح قادرا على إنتاج ثمرة من تلك الثمرات ، فأنت بوقوفك على أيِّ كتاب تلقط الثمرة ، وبوقوفك على مثل هذا واتصافك بما فيه تصبح ذا يد تزرع بها وتحصد الثمار ، ثم قال :
فاحفظ وراعِهِ علَى الدفاتر
فإنه من جملة النوادرِ
هذا أوانُ البَدْءِ في طريقي
واللهُ عوني وبه توفيقِيْ
ثمَّ عقد فصلا في ذكر الأدلة من الآيات القرآنية والأخبار والآثار الدالة على فضل التأليف والتصنيف قال في أثنائه :
وأظهرُ الأخبار في ذا البابِ
أنْ قيِّدُوا العلومَ بالكتابِ
قال لصحبِهِ اكتبوا ولا حرَجْ
وقالَ : غيرَ الحقِّ منِّيْ ما خرج
ثمَّ استرسلَ في ذكر الأخبار والآثار الواردة في فضل كتابة العلم والحثِّ عليها ، حتى قالَ:
وربما استُدِلَّ بالقرآنِ
المحكم الحكيم والفرقانِ
على فضائل المؤلفاتِ
أخرْتُ ذكرَ هذِهِ الآياتِ
لأنها وإن تجِدْهَا باهرَةْ
غيرُ صريحةٍ وغيرُ ظاهرةْ
فهاكَ منها دُرَرَ اللطائفِ
تُثْبِتُ فضلَ الكُتْبِ والصحائفِ
ففِي (الَّذِيْ عَلَّمَ بالقلمِ ) مَا
أفادَ فضلَ الكُتْبِ عندَ العُلَما
وبعضُهُمْ أثبتَ فيه فضلَا
وشرفاً واحتجَّ واستدلّا
بآيةِ القرآنِ : ( قالَ علمُهَا )
صِلْ ( عِنْدَ رَبِّيْ فِيْ كِتَابٍ ) بعدَها
وقال : ( فَأْتُوا بكتابكُمْ ) فذَا
أشارَ أنَّ الفضلَ فيهِ أُخِذَا
مِنْ ذِكْرِهِ في سُوَرِ القرآنِ
في معرِضِ الحجةِ والبرْهَانِ
وهكذا بقي يعدد الآيات التي استنبط منها العلماء فضل كتابة العلم وتدوينه .
ثم عقد فصلاً في ذكر أول من كتب وألَّف على الإطلاقِ ، قالَ في أوله :
فيْ أولِ المؤلفينَ خُلْفُ
فقيلَ : آدمٌ ، وفيهِ ضعفُ
قَيَّدَ ما أرادَهُ في طِينِ
أو ابنُهُ وهوَ كذَا ذُو لِينِ
وهكذا بقي يعدد حتى أتى على جميع من قيل إنه أول من ألف ، ثم عقد فصلاً في ذكرِ بعضِ الرسل والأنبياءِ عليهم السلام الذين اتخذوا الكتابةَ صنعةً لهُمْ .
ثمَّ عقد فصلاً في ذكر العلماءِ الأوائلِ الذينَ فازُوا بالسبقِ فِي التأليفِ والتصنيف في فنون أو أبواب من العلم ؛ فذكرَ أولَ مَنْ ألفَ في الفقهِ ثم الأصولِ ثم النحوِ ، وهكذا ، معَ ذكر الأقوال إن تعدَّدَتْ، وقد بلغَتْ أبياتُ هذا الفصل ١٣٢ بيتاً.
ثمَّ عقدَ فصولاً في بيان معنَى التأليف والتصنيف والفرقِ بينَهُمَا .
ثمَّ عقد فصلا ذكر فيه مناهج التأليف المشهورة إجمالاً ، وهي : اختراع ما لم يسبق إلى مثله ، وجمع المتفرق ... إلخ.
ثم عقد فصلاً لكل واحد منها على الخصوص ، وعندما ختم ما يتعلق بالأول وهو اختراع ما لم يسبق إلى مثله ذكر فضل الأوائل من واضعي العلوم السابقين لتدوينها فقال :
ابتكروا فلهم الإبداعُ
ثم الذين بعدهم أتباعُ
لا يستوي مبتكرٌ وساحبُ
ذيلٍ فللورَى هنا مراتبُ
ولنْ يكونوا أبداً يعدُونَا
رتبةَ مَنْ قد وضعُوا الفنونا
إنهُمُ الأصولُ للأشجارِ
ثمَّّ الذين بعدُ كالثمارِ
ما كاتبٌ إلا عليه منَّةْ
للسابقينَ حيثُ سنُّوا سنَّةْ
هم حائزونَ فضلهُمْ وسبقا
إنَّهُمُ المؤلفونَ حقَّا
وما أجمل قوله : ( إنهم المؤلفون حقَّا ) ، ولَـمَّا كان هذا الاعتراف بالفضل لهم مما قد يبعث اليأس عن اللحوق بشأوهم لدى المعاصرين .. بادر إلى قطع دابر ذلك اليأس فقال :
لكنَّ علمَ ربِّنا لا يقتصِرْ
عليهِمُ وسِرُّهُ لا ينحَصِرْ
وليسَ بابُهُ بذي إغلاقِ
ففضلُ ربِّنَا الكريمِ باقِيْ
مَنْ ظنَّ أن بابَهُ مسدودُ
أو أنَّه بمَنْ مضَى محدودُ
فقدْ أساءَ ظنَّهُ بالمولَى
وضيَّقَ الجودَ له والطَّوْلَا
كمْ تركَ الأولُ للأواخرِ
ويستبينُ ما مضَى فِي الحاضرِ
يختارُ مَنْ شاء بأنواع المنَنْ
ما خَصَّ أيَّ زمنٍ دونَ زمنْ
فاحرِصْ معَ الكمالِ فِي الأهليَّة
عَلَى التَفَوُّقِ بأَوَّلِيَّة
ثم ذكر منهج الشرح والتبيين للمغلق ، وذكر وظائف الشارح ، ثم ذكر منهج الجمع للمتفرق ، ثم منهج الإكمال أو تتميم الناقص ، ثم منهج التهذيب والاختصار وتناول فيه تقسيم المؤلفات إلى مبسوطات ومختصرات وما يفيد الاختصار من الألفاظ كالتهذيب والتلخيص وما شابه ووظائف المختصِر للكتاب وانقسام المختصرات إلى ما يعمد صاحبه إلى كتاب معين يختصره وإلى ما يضعه صاحبه على وصف الاختصار دون أن يقصد اختصار كتاب بعينه ، ثم تكلم عن اختصار الكتاب المختصر وقبول ذلك لديهم وأمثلة عليه ، ثم ذكر مَنْ ذمَّ الاختصار من العلماء .
ثم تكلمَ عن منهج الرد وإصلاح الغلط ، وأتى فيه بما يطرب السامع ويشنف المسامع من حُكْمِ الرد على الخطأ وشروطه وآداب من تصدى له إلى غير ذلك ، ثم تكلم عن منهج ترتيب المنثور ، ثم المنهج الثامن والأخير وهو : تعيين المبهم.
ثم عقد فصلاً لبيان طريقة تسمية الكتب المؤلفة وما يستحسن أن يراعيه المصنف في اسم كتابه وما ينبغي تجبنه من الأسماء ، ومما قال في ذلك :
ويتحَرَّى في اسمه الأسجاعا
حتَّى يمتعَ بها الأسماعا
وكرهوا تسميةً مضاهيةْ
لواحدٍ من الأسامي العاليةْ
وذاكَ في الكتبِ كـ (العزيزِ )
للرافعيِّ شارحِ الوجيزِ
حيثُ أتَى مشابهاً مماثلا
لاسمِ إلهِ الخلقِ جلَّ وعلَا
فقرَّرُوا زيادةَ الأسامي
حتَّى تَخَلَّصَ مِنَ الإيهامِ
فَلا يكونُ ذكرُهُ مجرَّدا
عنِ المضافِ ، بل بـ ( فتحٍ ) قُيِّدَا
فإنْ تجد ( فتحَ العزيز ) سُمِعَا
فهيَ زيادةٌ أتَتْ تَوَرُّعَا
وقِسْ عليه سائرَ الأسماءِ
واقتفِ بالأحوطِ في الآراءِ
ثم ذكر استحباب اختصار الاسم ومن خالف ذلك فسمى كتابه باسم طويل وأمثلة من ذلك .
ثم عقد فصلاً في بيان رؤوس التأليف الثمانية التي ينبغي أن يذكرها المصنف في صدر الكتاب .
ثم عقد فصلاً لبيان ما يسمى بتراجم الكتب المؤلفة من المقدمة والباب والفصل والخاتمة وما شابه ، والحكمة من توزيع الكتاب على هذه التراجم ، وقال في خاتمة هذا الفصل :
وقد يريحُ تعبَ الأفكارِ
مثلُ صنيعِ ابن نجا الأبيارِيْ
إذ أبدلَ الفصولَ فِي الكلامِ
بعدَّةِ الأسمَا منَ الطعامِ
بطِّيخَةٍ كنافةٍ هريسةْ
فيذكُرُ الفوائدَ النفيسَةْ
لكنْ لِـمِثْلِ ذا الصنيعِ خُلْفُ
لِـمَا عليهِ عادةٌ وعُرْفُ
وليسَ مِنْ محامدِ الأوصافِ
الميلُ عنْ محاسنِ الأعرافِ
ولعمري ما أجمل هذا البيت الأخير ، ولقد ساقه مساق الأمثال ، فهو حري بالاستشهاد خليق بالترداد.
ثم عقد فصلاً لِحُكْمِ التأليف عند الشافعية ، ثم عقد فصلاً في جملة من فوائد التأليف والتصنيف .
ثم عقد فصلاً في ذكر جملة يسيرة من فوائد الكتب المؤلفة وثمار مطالعتها ، ومن جواهر ما قاله فيه مبيِّناً فضلَ الكتبِ :
وانتُزِعَ العلمُ بموتِ أهلِهِ
وقرَّ علمُ القومِ في محلِّهِ
محلُّهُ الكتُبُ وهي باقيَةْ
وإنْ تكُنْ هذِي الأياديْ باليةْ
تَعْقِلُ بالكتابِ كلَّ شاردِ
مِنْ نكت العلومِ والفوائدِ
يعمُّ كلَّ الناسِ لا الخواص
يبصِّرُ الأعمى ويُدْني القاصي
وهو على خفَّتِهِ في الحَجِْم
موَفَّرُ الربح كثيرُ الغُنْمِ
ثم قال وهو من أحسن ما قال :
وفي الكتاب يا فتى تعاشرا
أوائلُ القومِ بمن تأخَّرَا
فإنه كمجمع الأشرافِ
فيه التقى الأحياءُ بالأسلافِ
ثم قال :
وهاكَ منِّيْ خبراً قدْ نُقِلَا
فِي ابن المبارَكِ أتَى ، فسُئِلا
مالكَ تُعْرِضُ عَنِ الجُلّاسِ
منعزلاً عَنِ الْـمَلَا والناسِ
فابنُ المباركِ لهُمْ أجابا
مفضِّلاً عليهِمُ الكتابا
جالستُ أصحابَ النبيِّ أحمدا
والتابعينَ خيرُ قومٍ يقتدَى
قيلَ لَهُ كيفَ وكنتَ حيَّا ؟!
فقالَ بالكتبِ تكونُ اللُّقْيَا
فهُمْ وإن غابُوا عنِ الأنظارِ
أدركْتُ ما لَهُمْ منَ الآثارِ
إلى آخر ما ساقه في هذا الفصل من أبيات معانيهَا الزُّلال وألفاظها السحر الحلال .
ثم عقد فصلا في المفاضلة بين التأليف والتدريس مع ذكر الخلاف في ذلك وخلص فيه إلى قوله :
والجمعُ بينَ المسلكَيْنِ أفضلُ
دعِ الجدالِ فهو داءٌ معضلُ
ثم عقد فصلاً في بيان الأوصاف التي ينبغي أن يتصف بها المؤلِّف والمصنِّف ، ثم فصلاً في التحذير من الإقدام والتصدي للتأليف والتصنيف لغير المتأهلين، ثم فصلاً في نوايا التأليف والتصنيف .
ثم فصلاً في بعض شروط الكتاب المؤلَّف ، ثم فصلاً في الحث على عرض الكتب على الشيوخ بعد انتهاء التأليف والتصنيف ، ثم فصلاً في بيان العوارض الطارئة أثناءَ التأليف والتصنيف وتحت هذا الفصل مطالبُ .
ثم فصلاً في السرقة العلمية والتحذير منها ، ثم فصلاً في ذكر بعض المؤلفات التي حذر العلماء منها ، ثم فصلاً فيما حذر العلماء منه لبطلان نسبته إلى من نسب إليه ، ثم فصلاً فيما حذر العلماء منه من الكتب لاشتماله على الأخبار الباطلة والموضوعة .
ثم فصلاً في بيان مراحل أعمار الإنسان مع بيان المرحلة المناسبة للتأليف والتصنيف ، ثم فصلاً في ذكر جملة يسيرة من الكتب التي ألفها الأئمة الكبار فأدركتهم المنية قبل إكمالها ، ثم فصلاً في ذكر الأئمة المكثرين من التأليف ، ثم فصلاً في ذكر الأئمة المؤلِّفين الكتب الكبار وقد يبلغ كتاب واحد منها مائة مجلد أو أكثر .
ثم عقد فصلاً فيمن ألف كتابه ثم أتلفه بالإحراق ونحوه مع بيان الدواعي والبواعث التي بعثتهم على مثل ذلك وبيان الحكم الشرعي فيه ، ثم عقد فصلاً في ذكر الأئمة الذين ألفوا كتبهم في السفر ، ثم فصلاً في ذكر الأئمة الذين ألفوا كتبهم لأبنائهم ، ثم فصلاً في ذكر الأئمة الذين ألفوا كتبهم في شبابهم أو صغرهم .
ثم ساق فصلاً في الأئمة الذين ألفوا كتبهم ومكثوا في تأليفها مدة طويلة ممن مكث أربعين سنة أو خمسين أو ثلاثين أو عشرين أو خمسا وعشرين ونحو ذلك وجعل لكلٍّ من ذلك مطلباً على حدة ، ثم فصلاً في ذكر الأئمة الذين ألفوا كتبهم في مدة قصيرة ، ثم فصلاً في ذكر الأئمة الذين ألفوا كتبهم في السجن وفيه ٣٠ بيتاً ، قال في آخره:
وسيدي المحدثِ الأواهِ
شيخِ المغاربةِ عبدِ اللهِ
أيِ ابنِ صديقٍ هو الغماريْ
السالكِ المقدمِ النظارِ
لَهُ حواصلٌ أتَتْ إحدى عشَرْ
منَ المؤلفاتِ تنفَعُ البَشَرْ
وقدْ حوتْ عديدَة الفنونِ
وكلُّها نتائجُ السجونِ
ثم عقد فصلاً في ذكر بعض أخبار المؤلفين الدالة على حسن اعتنائهم بالتصنيف ، ثم أتى بفصل في الحث على الثبات والإعراض عن الحساد عند التأليف والتصنيف ، ومما قاله فيه :
فلا يهمَّكَ لسانُ أحدِ
ولا تجازِ حاسداً بحسدِ
ولا تقابلْ حقدَهُ بحقدِ
واهدأْ بما أفادهُ ابنُ الورديْ
فالناسُ لم يصنِّفُوا فِي العلمِ
لكَيْ يصيرُوا هدفاً للذمِّ
ما صنَّفُوا إلا رجاءَ الأجرِ
والدعواتِ وجميلِ الذكرِ
لكنْ فديْتُ جسداً بلا حَسَدْ
ولا يُضِيعُ الله حقاً لأحَدْ
واللهُ عندَ قولِ كلِّ قائلِ
وذُو الحِجَا مِنْ نفسِهِ في شاغِلِ
قلتُ : ما أعجب البيتين الأخيرين ، وما أبلغهما في النصح والتنبيه .
ثم عقد فصلاً في استحباب تحري الأماكن الطيبة عند التأليف والتصنيف قال فيه :
واقتدِ فِي التأليفِ بالأخيارِ
مثلِ الإمامِ الحجةِ البخارِيْ
عُدَّ لَهُ مِنْ جملةِ المحاسنِ
أنْ يتحرَّى أحسنَ الأماكنِ
حينَ يرومُ القيْدَ والتصنيفَا
فذاكَ أمرٌ زادَهُ تشريفا
كتابُهُ الصحيحُ كانَ حرَّرَه
أكملَهُ في طيبةَ المنوَّرَةْ
تمَّتْ لَهُ تراجمٌ كالدررِ
ما بينَ قبرِ المصطفَى والمنبرِ
كانَ يصلِّيْ عندَ كلِّ ترجَمَةْ
يشكرُ ربُّهُ الذي قد علَّمَه
ثمَّ أتمَّ بعدَهُ تأليفَهْ
فِي الروضةِ المنيفةِ الشريفةِ
مكمِّلاً كتابَهُ الشهيرا
أعني به تاريخَهُ الكبيرا
والمزَنِيُّ كانَ صلَّى وشكَرْ
مِنْ بعدِ كلِّ مبحثٍ فِي المختصرِ
ثم عقد فصلاً في ذكر تقسيم بعض الأئمة المؤلفين أوقاتهم ، مع ذكر الوقت المناسب للتأليف والتصنيف ، ثم أتى بفصل في ذكر الأئمة الذي توفاهم الله عند التأليف والتصنيف ، قال فيه :
قدْ حانَ ليْ أنْ أختِمَ الفصولا
بذكرِ قومٍ رزقوا الحصولا
علَى فراقِ هذِهِ الدنيَّةْ
بصورةٍ طيبةٍ سنيةٍ
آبُوا إلى ربهمِ اللطيفِ
عندَ الكتابةِ أوِ التأليفِ
فكانَ موتاً طيبا مُهَنَّا
وكانَ مطلباً جميلاً أسنى
قدْ شُرِّفُوا بالحسنِ في الختامِ
همْ شهداءُ الحبرِ والأقلامِ
مثلُ التقيِّ الثقةِ الرحََّالِ
حاوي الكمالِ مفخرِ الرجالِ
الهاشميِّ الجعفريِّ أعنِيْ
به الإمامَ الحافظَ ابنَ السُنِّيْ
أدركَهُ أجلُهُ مصنِّفَا
يكتُبُ أقوالَ النبيِّ المصطفَى
ثم مضى يعدد بقية من أدركهم الأجل عند التصنيف ، ثم وضع الخاتمة وقد أشار فيها إلى الظرف الصحي الحَرِج الذي مر به أثناء اشتغاله بهذا النظم معتذراً به عما في نظمه من قصور بأحسن اعتذار فقال فيها :
قدْ تمَّ سردُ هذِهِ المنظومةْ
وهيَ بعونِ ربِّنَا مختومةْ
لولا عنايةٌ من اللطيفِ
لانسدَّ كلُّ سبل التصنيفِ
ولا يتمُّ كلُّ قولٍ وعملْ
إلا بفضلِ ربنا عزَّ وجلْ
نظمُ أقلِّ العبدِ إبراهيمِ
راجي عطاءَ ربه العميمِ
قدْ صاغَهُ تسليةً للنفسِ
مستجلباً بِهِ حصولَ الأنسِ
حيثُ أتمَّ نظمَهُ تتميمَا
إذ كان بين أهلِهِ سقيما
لكنَّ إبراهيمَ غيرُ منصرِفْ
عنِ الرجا وليسَ قطُّ ينحرفْ
عن حسن ظنِّهِ بحكم المولَى
فكلُّ ما قدَّرَ كانَ أولَى
يكتُبُ ما يبدُو لَهُ مِنْ خاطرِ
بقدرَةِ اللهِ العليِّ القادرِ
فصارَ نظماً كاملاً مصفَّى
عندَ التردُّدِ إلَى المستشفَى
فيرتجِيْ مِنْ معشَرِ القُرَّاءِ
أنْ يُكْرِمُوا بدعوَةِ الشفاءِ
لَهُ فإنه كثيرُ الزللِ
ومبتلىً بعدةٍ مِنْ علِلِ
وليَصْفَحُوا إنْ وجدُوا عِثارا
في نظمِهِ وليقبَلُوا أعذَارا
وعذْرُ مَنْ عَلَى سريرِ المرَضِ
يقبَلُهُ كلُّ صَفِيِّ الغَرَضِ
قلت : ما أحسن هذا الاعتذار وما ألطفه ، وقد ذكرني بقول العلامة الحبيب عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف في صدر منظومته التي نظمها في علم الوضع :
( فهذه منظومةٌ فِي الوضعِ
نظمتُهَا معَ انحرافِ الطبعِ
في ليلةٍ علَّلْتُ نفسِيْ بالقَلَمْ
إذْ لَمْ أَنَمْ فيها لتأثير الأَلَمْ)
فالحمد لله الذي أرانا هذه الهمم يعود ماضيها وتحيا أراضيها ويُبْعَثُ رميمُهَا ويخضرُّ هشيمُها ، وكم ترك الأول للآخر ، بل كم جاد على الجميع الأول الآخر الباطن الظاهر ، نسأله أن لا يحرمنا خير ما عنده لشر ما عندنا .
ولست أدعي لهذا النظم الكمال والعصمة ، ففيه بعض الحشو والتكرار وأمور أخر تظهر لمن طالع المنظومة ، ولا عجب فقد أبى الله الكمال إلا لكتابه ، ثم إنها يسيرة لا يظهر لشمعتها أثر تحت شمس محاسن هذه الألفية .
ثمَّ إن الناظم حفظه الله خصَّ أمَّهُ بطلبِ الدعاءِ لهَا ، حيث إنها أنفقت ووهبت من حالها وهمها بل ومن جسمها لأجل عافيته ، فتبرعت له بكليتها لما أصيب بالفشل الكلوي فقال مشيراً إلى ذلك :
وليذكروا أدعيةً لطيفةْ
لأمِّه الصالحةِ العفيفةْ
ضحَّت له حياتَهَا للشفقَةْ
أضحَتْ لَهُ كضوءِ شمسٍ مشرقَةْ
ولأبيهِ ذِي التقَى أمينِ
وجدِّهِ خليلِنَا المكينِ
ولأبِي السعيد إسماعيلا
إذْ كانَ عنه خفَّفَ الثقيلَا
وإسماعيل هذا أخوه الأكبر ، وهو أيضا من طلاب دار المصطفى ، وقد تخرج منه قبل سنوات ، وهو وأخوه صاحب الألفية يقومان الآن على شؤون المعهد العلمي الذي تركه لهما والدهما العالم المرحوم تغشاه الله بواسع مغفرته ورضاه.
وقد أرفقت بهذا المقال صورة جمعتني بالناظم وأخيه الشيخ إسماعيل عندما زرتهما ببيتهما ببلد (بنكلان) من جزيرة (مدورا) من إندونيسيا والذي في تجاهي الشيخ إسماعيل الخليلي والذي عن يساره أخوه الناظم .
ورجائي ممن يقرأ هذه السطور أن يجود بالدعاء بتمام العافية للناظم إبراهيم ولوالدته ، وأسأل الله تعالى أن يزيده وأخاه ومن يعينهما من خير العظيم وجوده العميم ، وأن يري والدي في طلابه والمنتمين إليه من تقر بهم عينه ويسر بهم قلبه وأن يحيي بهم معالم الدين وإرث سيد المرسلين ويصطفيهم لحمله وأخذه بحقه مع التمكين المكين والعافية التامة إنه على كل شيء قدير ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حامد بن عمر بن محمد بن سالم بن حفيظ ابن الشيخ أبي بكر بن سالم
١٤ صفر ١٤٤٦هـ
تعليقات
إرسال تعليق