لحظات الألم
( لحظات الألم )
شعرت بيسير صداع صاحبني لبضع ساعات ، فوجدت نفسي أحسب وأعدُّ الساعات وأتذكر من أي ساعة بدأ ، وإذا بي وأنا أتحدث مع أحدهم أقول له : منذ الساعة الفلانية أصابني ، ثم تفكرت في حالي وما تحملني عليه النفس الأمارة من سوء الأدب مع الله !
قبل هذه الساعات اليسيرة مرَّت ساعاتٌ كثيرة وأيامٌ طويلة ومدَدُ العافية من الله يجري لي ولم ينقطع عني فلَمْ أحسب الساعات ولم أعدَّ الأيام ، ولم أحدّث نفسي بذلك أصلا !
ولو أني أردت أن أفعل .. لعجزت ، فكم ذا سأعد وكم سأحصي !
ماذا لو أن رئيس الدولة يفاجؤك كل يوم بألف دولار يعطيك إياها بلا مقابل ، يمنحك إياها وأنت لا تفعل مقابلها أي شيء ، ثم في يوم من الأيام لم يعطك شيئاً ، فهل ستسمح لك مروءتك أن تقول لمن عندك : لقد مر يوم كامل بساعاته الأربع والعشرين ، ساعة بعد ساعة والرئيس لم يعطني ألف دولار ، لا حول ولا قوة إلا بالله !
بل ربما استحييت أن يخطر لك هذا الخاطر تجاهه لأنك مشغول بالخجل نحو إكرامه الذي ما كنت تفهم له سبباً غير أنه كريم .
أليست العافية التي يهبك الله إياها كل يوم أغلى من ألف دولار ؟ ألا ترى من الناس من يتردد على حوانيت الأطباء بين غرف المستشفى ليشتري عافية اليوم بهذا المبلغ وأكثر ثم لا يجد البضاعة ولا يعود إليه الثمن ؟
يعطيك الله هذه العافية التي تساوي آلاف الدولارات كل يوم مجانا من عنده وأنت غير مكترث ولا مبالٍ ، فإذا توقفت لساعات قليلة .. بدأتَ تعدّ وتحسب ، وربما داخلك شيء من التبرم من قضائه تعالى وتنسى كل الجميل الذي مضى وكأنه لم يفعل لك شيئاً سوى أنه قطع عنك العافية فقط ؟!
عندما تشكو إليك امرأتك أو ابنك عدم تحضيرك لواحد من طلباتهم تبدأ أنت مباشرة في سرد قائمة الطلبات الأخرىالتي قد جلبتها وحضرتها لهم ، وتقول : ما هذا الكفران ، تنسون كل ذاك الإحسان ، عشرات الطلبات آتي بها يومياً والآن تأتون تحسبون علي هذا وكأني ما قد أحسنت ، ينبغي أن تستَحُوا من ذكر هذا أصلا ؛ لأنه يضيع جنب الإحسان المتواصل مني و و و... إلخ المحاضرة المعروفة.
تخيل حالك مع ربك حينما يراك تلهو بنعمه وتستمتع بها وتمرح في التلذذ بها لا تراها شيئاً كبيراً ولا تستبعث منك الخجل ولا تتحدث بها مستشعراً نعمته عليك بل تسترها وتسكت عنها ، ثم إذا قطع عنك واحدة منها لساعات .. بدأت تحسب وتعد وتخبر الآخرين بأنها انقطعت وأن انقطاعها كان من حين كذا.
ثم هب أن هذا المرض كان مقابل حصول العافية في أيامك الخالية ، أليس هو ثمن رخيص؟!
يأتيك الطبيب ليتسبب في عافيتك فيؤلمك بعلاجه فتتقبل إيلامه بنفس راضية طمعاً في العافية المتوقعة ولا تنزعج منه ، بل تدفع له المال ، وترى أنه أسدى إليك معروفاً بإيلامه الحاضر الذي كان ثمناً للعافية في المستقبل، فترضى بالتألم حيث كان ثمناً مقدماً للعافية .
أليس من يقبل الثمن آجلاً أكرم ممن لا يأخذه إلا مقدماً ؟
اعتبر أن هذا المرض ثمن مؤجل للعافية السابقة واشكر من أصابك به كما تشكر من يصيبك به لأجل العافية في المستقبل ، ولا تنس أن هذا أولى بالشكر من ذاك لأن عافية المستقبل مشكوك فيها أما هذي .. فقد حصلت ، فثمنها أحق بالبذل .
بالإضافة إلى أن الطبيب يؤلمك وتعطيه الأجرة لأجل العافية المشكوك فيها ، وهنا لا توجد أجرة تدفعها ، فهناك خصم في الثمن ، بل يوجد بدل الأجرة أجر تأخذه ولا تعطيه ، فهذا عرض متميز يشبه ما لو كان الطبيب يعالجك ويعطيك المال.
هذا كله لو جعلت ربك بمنزلة طبيب فكيف والأمر أكبر من هذا وأجل ، ولله المثل الأعلى.
وما أعجب قول محمود الوراق:
عطيتُهُ إذا أعطَى سرورٌ
وإنْ أخذَ الذي أعطَى أَثَابا
فأيُّ النّعْمَتَيْنِ أحقُّ شكراً
وأحمدُ في عواقبها إِيَابا
أَنِعْمَتُهُ التي أهدَتْ سروراً
أمِ الأخرَى التِيْ أهدَتْ ثوابا؟!
ولقد تساءلت ، ما الذي يجعل الواحد منا لا يلاحظ نعمة العافية المستمرة ويراقب بكليته دقائق المرض المعدودة ، ولعل ذلك يعود إلى أمرين:
الأول : أن نعمة العافية دائمة، ومستمرة، وظاهرة جداً حيث تبدو على كل عضو وكل مفصل وكل عصب وكل عرق في جسمك وكل ذرة من جلدك، فلشدة ظهورها اختفت عن بالك، أما المرض .. فوقته قصير ومكانه محدود غالباً إذ يكون في الجلد دون العظم بل بعض الجلد أو العكس وهكذا ، فلهذا بقي ماثلاً أمام عقلك.
فسبحان من كثرت علينا نعمه وظهرت حتى جاوزت طاقة عقولنا في الملاحظة والتنبه، فقصَّرْنَا في شكرها لا لأنها قاصرة ، وحجبنا عن شهودها لا لأنها خافية بل لشدة ما ظهرت ، وهذا مما ينبهك إلى صدق قولهم : ( ومن شدة الظهور الخفاء ).
وما أعجب المثل الذي ضربه لذلك حجة الإسلام ، وحاصله أنه لو طُلب منك أن تحسب الأشياء الموجودة في المكان الذي أنت فيه .. فإنك ستبدأ بعد الأرض والسقف والسراج وهذا المتاع وذاك المتاع ، ولكنك غالباً لا تعدّ من بينها النور المشرق ، مع أنه لو ذهب النور .. فلن ترى شيئا لا السراج ولا السقف ولا غيرها ، فما الذي غيَّبك عن عدِّ النور إلا أنه كان أظهر شيء في المكان حتى ذهلت عنه وغفلت، ومن شدة الظهور الخفاء.
وقس على هذا تجلي أنوار جمال الحق تعالى وانبساطها على الوجود والمخلوقات ، فإنك لا تلحظه لشدة ظهوره ويلحظه العارفون لتخلصهم من أسر الغفلة، فليس عَمَاك عما شاهدوه لكونه بعيداً أو دقيقاً يحتاج إلى نظر حاد ، وإنما حجبك عنه ستار الغفلة الذي تصر على أن تبقى متغشياً به.
الأمر الثاني : وَهْمُ الاستحقاق الذي يسيطر على عقولنا، فنتوهم أن ما يفد إلينا من نِعَم الله حقٌّ له علينا نستحقه كما يستحق الأجير أجرته بفضل جهده وعرق جبينه ، مع أن النعم الإلهية إنما هي عوار مستردة ، وودائع مؤقتة ، إن أحسنّا الحفاظ عليها .. دامت لنا ، وإلا .. خسرناها.
وقد ضرب لذلك حجة الإسلام مثلاً بمن جاءك بطبق من ذهب عليه أنواع من الزهور والرياحين والنباتات ذات الروائح الزكية وأقبل به نحوك لتشمه وتتمتع بالرائحة الطيبة ثم ترد الطبق إليه ، فإنك تفرح منه بإكرامه لك ، وبعد أن تستنشق الزهور ويشير عليك برد الطبق ترده عليه وأنت مغتبط فرحان مسرور.
ولكن ماذا لو أنك لم تفهم قصده عندما ناولك الطبق ، وتوهمت أنه يريد أن يهبك الطبق بما فيه فإنه عندما يشير عليك برده تنقبض نفسك ويتمعر وجهك ، وليست المشكلة في أنه بخيل إنما المشكلة في أنك سيئ الفهم.
وهكذا لو استعرت سيارة صديقك وقضيت عليها مشواراً ثم جاء وأخذها ، فإنك تشكره عندما يأخذها على ما أكرمك به من إعارتها.
وربك عندما يعطيك العافية أو غيرها من النعم فلا تتوهم أنه يبيعها عليك، إنما يتفضل بها عليك ويعيرك إياها عارية ، فعندما يستردها ينبغي أن تكون شاكراً له على ما خولك منها وأنت لا تستحق ، وإلا .. أصبحت كالذي يقضي المشوار بسيارة صاحبه ثم لا يردها حتى يتضجر من ذلك الصاحب ويضيق من فعله ويكون هذا جزاؤه لصاحبه على تلك العارية.
اللهم خلقنا بالأدب معك، وأسبغ علينا ثوب العافية ولا تنزعه عنا، وأكرمنا بعافية القلب والجسد، وعافية الدنيا والآخرة، وأوزعنا شكر نعمك التي تنعم بها علينا ، إنك على كل شيء قدير.
تعليقات
إرسال تعليق