الذوق في الفن
الفن والطرب في أصله ذوق ووجدان في النفس والباطن ، يهيّجه الكلام الرقيق والصوت الحسن والنغم الجميل ، فيترشح أثره على ظاهر صاحبه ويتسلل من قلبه إلى جسده ، فيتفاعل بحركات موزونة وتعابير مختلفة تنم عما بداخله من الوجد أو السرور .
وهذا فــي أصله من علامات سلامة الذوق وكمال النفس الإنسانية .
ومدار الفن على وجود التناسب والتناسق بين الحال والنغم والكلام إلى آخره.
فمن ثَمّ لا تجد المغني يستسيغ مواصلة الغناء إذا كان الإيقاع لا يلائم اللحن الذي يغني به ، ولا صاحب الزفين يتمكن من الرقص إذا كان يرقص باتجاه إيقاع موسيقي معيَّن ونغمة العازف تسير في اتجاه موسيقي معاكس ، وهكذا .
فمتى ذهب التناسب .. ذهب الفن .
فمن الغريب أن ترى الكلام الذي يتغنى به المغني ويرقص عليه الراقصون في واد ، وأولئك الذين يردّدونه في وادٍ آخرَ .
هؤلاء الذين في الفيديو يحدو فيهم المغني بأبيات ابتهالية يخاطب فيها الناظم ربه بالاعتراف بالتقصير في حقه وأنه قد استكثر من الخطايا والذنوب حتى إنه قد أشرف على ( لظى ) وهي نار جهنم ثم يتوجه إلى الله في أن يتوب عليه.
وهذه المعاني كما ترى تملأ قلبك بالحياء من الله والإشفاق من الوقوف بين يديه وتحملك على رفع كفيك بالتوجه إليه في التوبة والمغفرة .
ولكنك تجدهم لا يعملون شيئاً بإزاء هذا التذكير الخطير والمناجاة الحزينة سوى أنهم يهيمون مع نغمات الموسيقى ويمعن أولئك الراقصون في رقصهم ويتلاحقون واحداً تلو الآخر يركلون الأرض بأقدامهم بين رافع يده وخافض رأسه وهكذا في منظر غريب من النشاز !
تخيل نفسك عندما تأتي لأحدهم بخبر محزن فيتهلل ويصفق ، أو تخاطبه بفرح وسرور فتذهب به تعابير وجهه إلى عالم آخر من التفاعل الكئيب ، كيف يكون موقفك منه ؟!
هذا هو حالك عندما تسمع كلاماً مشحوناً بالتخويف والتأنيب فتتفاعل معه بالرقص والسرور !
هذا من حيث الذوق والفن .
وثم أمر آخر ، وهو أن هذه الأبيات يخاطب فيها العبد ربه بالاعتراف بذنوبه ، والمعترف والمعتذر لا يليق به إلا الانكسار والخجل حتى لو كان يعتذر لإنسان ، ولو أن شخصاً جاءك يعترف لك بخطئه في حقك وأتاك وهو يرقص .. لكنت تعد هذا منه خطأً أقبح مما جاء يعتذر منه ، ولكُنت تفهم منه أنه مسرورٌ بأخطائه فرحان بها !!
فكيف بك وأنت تخاطب ربك معترفاً بذنبك وأنت ترقص وتصفق وتلهو وتقفز !!
ثم مهما أراد أمثال أولئك الخير والتبرك بكلام الصالحين وسلمت نيتهم عن قصد الاستهزاء بالدعاء والسخرية به - وظني أنهم سالمون - فأرجو لهم السلامة من الخطر ، وأن يلهمهم الله الرشد والصواب .
ولست هنا أمنع الآلات بإطلاق ولا أجرم استعمالها في كلام الصالحين بإطلاق وإنما قصدت التنبيه على ما ذكرته أعلاه، وبالله التوفيق.
تعليقات
إرسال تعليق