دوام الافتقار إلى الله
بسم الله الرحمن الرحيم
دوام الافتقار إلى الله
لا يشك مؤمن في أن الله تعالى خالق كلِّ شيء، وأنه سبحانه وتعالى يتوجه خلقه إلى الأشياء مباشرة دون أن يحتاج إلى توسط سبب ينفذ منه خَلْقُهُ إلى ذلك الشيء، فلا يحتاج إلى الأسباب ليرتب عليها مسبباتها، فهو تعالى قادر على أن يهلك مع توفر أسباب الأمن، وعلى أن يؤَمِّن مع تظافر أسباب الخوف والهلاك، وعلى أن يعافي مع حضور دواعي المرض، وعلى أن يمرض مع غياب أسباب المرض، وإنما عقد سبحانه وتعالى بين تلك الأسباب والمسببات اقتراناً في الوجود؛ اختباراً وابتلاء للمؤمنين، فيغتر بها من ضعف يقينه، ويتسامى عن اعتقاد التأثير فيها من كمل إيمانه.
ولرسوخ هذه الحقيقة في القلب آثار وثمرات كثيرة؛ من أبرزها وأهمها:
أن يستوي افتقار المؤمن إلى الله والتجاؤه القلبي إليه في حالي الرخاء والشدة، والصحة والمرض، والأمن والخوف؛ إذ هو موقن أن الله قادر على أن يهوي به إلى قعر الأرض وهو في بيته، وعلى أن يسلِّمه من الخطر وهو على شفا جرف هار، وقادر على أن يمرضه وهو بأتم العافية، وعلى أن يعافيه وبه داء عضال، وقس على ذلك، فلا فرق عنده في افتقاره إلى الله بين الحالين؛ لأنه موقن بأن حاجته إلى الله في الحالين سواء، فتكون تلبيته لتلك الحاجة بالانكسار على باب الله في الحالين سواء أيضاً.
وبهذا ندرك أنه ليس الفقير بأحوج إلى أن يغنيه الله من الغني، وليس المريض بأحوج لعافية الله من المعافى، وليس الواقف على الشاهق الضيق الملتوي بأحوج إلى نجاة الله من القاعد في بيته وعلى هذا فقس، لا فرق بين الحالين أبداً إلا أن الحاجة هنا باطنة مستترة عن العين، وهناك ظهرت عياناً.
وربما قال قائل: لكن كيف تكون حاجة المعافى إلى نعمة العافية كحاجة المريض مع أن هذا يتمتع بها وذاك يعاني من فقدها؟
والجواب أن غاية الأمر أن تكون حاجة المريض إلى العافية أظهر من حاجة المعافى لكنها لا يمكن أن تكون أشد أبداً.
انظر إلى السراج الذي يعمل على الكهرباء، إنك قبل أن تصله بها توقن بأنه يحتاج للاتصال بها حتى يعمل ويضيء، ثم إذا وصلته بالكهرباء وأضاء السراج هل تعتقد أنه لم يعد بتلك الحاجة الماسة إلى الاتصال بالكهرباء لأنه أصبح مضيئاً؟!
إنه محتاج إلى الاتصال بالكهرباء حال انطفائه وحال إضاءته بنفس القدر من الاحتياج، غاية الأمر أن احتياجه حال انطفائه أظهر للناظر.
وهكذا تماماً حال المريض والمعافى مع نعمة العافية، وقس على نعمة العافية سائر النعم.
ورحم الله الإمام علي بن الحسين حيث نبه على هذه الحقيقة فقال: (ما صاحب البلاء الذي قد طال به أحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء([1])) أي إنهما سواء في الافتقار إلى الله والحاجة له، غاية الأمر أن الأول استترت حاجته إلى عافية الله بستارة وجودها هذه اللحظة (وهذا لا يعني أنها ستبقى في اللحظة القادمة، فهو فقير إليها) وذاك انكشفت عنه هذه الستارة بوجود المرض هذه اللحظة.
أرأيت من أخبره الطبيب بأنه مضطر إلى العلاج من مرض عنده خطير كالسرطان - عافانا الله منه - وأثبت له ذلك بالكشفيات والأدلة، ولكن المريض لا يجدُ بداخلِهِ ألماً، ولا على جسده تشوهاً، أتراه يتهاون في التطبب والعلاج ويشعر بالاستغناء عنهما وينتظر إلى حين يصحبه الألم حتى يشاهد حاجته إلى العلاج بعينيه ويحس بها بجسده؟
لقد أخبرنا الله بأننا محتاجون، لكن لا إلى العلاج بل إليه عز وجل، فهل من المنطق أن نتهاون في طلب ما نحن محتاجون إليه وننتظر أن نرى هذه الحاجة بأعيننا ونحسها بأجسادنا عندما يدعونا إليه داعٍ من الألم والمصائب؟
إن ذلك المريض لم يختلف حاله في تطلب العلاج الذي هو مضطر إليه قبل ظهور الألم عن حاله بعده؛ غاية الأمر أن ما قد علم القلب وجوده شهدت عليه العين أيضاً، ولم تفده هذه المشاهدة يقيناً لأن اليقين قد بلغ منتهاه قبلها، فلا يزيده وجود الألم يقينا بالحاجة إلى العلاج، ولا اجتهاداً في تطلبه، وكذلك المؤمن؛ فإنه يوقن أنه بأمس الحاجة في كل لحظة إلى الله ليحفظه من أسباب الهلاك التي لا يكفها عن الفتك به إلا لطفه الخفي المستمر في كل لحظة، فلا يزيده حضور شيء من أسباب الهلاك من مرض أو خطرٍ يقينا بحاجته إلى الله أو زيادة افتقار إليه.
نعم إنما يكون ظهور الأعراض على المريض سبباً في يقينه بالحاجة إلى العلاج إذا لم يبلغ تصديقه بكلام الطبيب درجة اليقين والجزم القاطع، أو غاب عنه ذلك اليقين حيناً ما، وهكذا حال من لم يتم يقينه من المؤمنين، أو غفل عن يقينه، تذكره المصائب بيقينه بأنه محتاج إلى الله فتحمله على العمل بمقتضى هذه الحاجة التي تيقنها، فيهرع إلى باب الله ويلح عليه ضارعاً.
وتأمل قول سيدي أحمد بن عطاء الله الاسكندري: (فاقتك ذاتية، وورود الأسباب مذكرات بما خفي عليك منها).
ومن هنا تعلم أن من ثمرة المصائب التي تنزل بالمؤمن أنها تذكره بحقيقته التي لا تنفك عنه قبل نزولها ووقت نزولها وبعد ارتفاعها، فتكسبه افتقاراً دائماً وإنابة مستمرة لا تتقيد بقيد المصائب، بخلاف المصائب التي تنزل بالكافر فإنها تذكره بأنه مفتقر ولكنه يظن أنها تجعله مفتقراً وقت حلولها فحسب، وانظر كيف أكد القرآن هذه الحقيقة ولام الكفار على غفلتهم عنها وتَوَهُّمِهِم اقتصار حاجتهم إلى الله على وقت الشدائد فقال:
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا).
وكأنه يقول لهم: هل نسيتم أنكم في البر الذي ترونه آمناً بأمس الحاجة إلى أمننا كما أنكم بأمس الحاجة إليه في البحر عند تلاطم الأمواج؟ أفأمنتم أن نخسف بكم جانب البر حتى تنسوا فيه افتقاركم إلينا؟
فتحصل أن العباد مستوون في افتقارهم إلى الله في حالي الرخاء والشدة، وإذا كان الأمر كذلك .. فما الذي يجعل الشعور بالافتقار إلى الله يتفاوت حسب ملائمة الظروف ومنافرتها، فنجد شعور المريض بحاجته إلى عافية الله أشد من شعور المعافى، وشعور الفقير بحاجته إلى إغناء الله له أشد من شعور الغني إلى غير ذلك؟
والجواب: أن هناك أمران بسببهما كان اختلاف الشعور بالحاجة إلى الله باختلاف ملائمة الظروف.
أولهما: طغيان وهم فاعلية الأسباب على الناس لما شاهدوا تكرر الاقتران بينها وبين مسبباتها حتى حسبوا أن النجاة في البيت أقرب منها في المنحدر العالي الضيّق، وأن حاجتهم إلى حفظ الله هنا أشد منها هناك، مع أن الحقيقة كما عرفنا أن الحاجة في الحالين واحدة، وإنما يسلم من هيمنة هذا الوهم من كمل يقينه ورسخ قدمه في التوحيد.
وثانيهما: توهم أن النعم التي تفد إلينا من حضرة الله نحصل عليها دفعة واحدة، وتأتينا كتلة مجتمعة يهبنا الله إياها ثم يتركنا معها حتى إذا أراد سلبها منا سلبها، فيتوهم المعافى أن الله قد وهبه نعمة العافية وفرغ من إعطائه إياها ثم يستردها منه متى شاء، ويتوهم الغني أن الله قد أعطاه نعمة الغنى وانتهى من تسليمها له، وهكذا بقية النعم، والواقع أن الأمر ليس كذلك، فإن النعم التي نتمتع بها إنما يمدنا الله بها لحظة فلحظة، لا ينقطع إمداده لنا بها في نفس من الأنفاس ولو انقطع إمداده لنا بشيء منها في لحظة واحده لتلاشت وغابت عنا، كما سبق ذكره في مثال السراج الذي يعمل على الكهرباء.
إن نعم الله تعالى متجددة؛ نعمة العافية التي معك الآن ليست هي التي معك قبل ثانية من الزمن وليست هي التي ستكون معك في الثانية المقبلة، لكل لحظة عافية يعطينا الله إياها في تلك اللحظة، وقس على هذا نعمة السمع والبصر والغنى وسائر النعم، وغياب هذه الحقيقة يجعل صاحب النعمة في غفلة عن افتقاره إليها بل ربما رأى هذا تناقضاً كيف يكون فقيراً إليها وهي بين يديه، وحضور هذا الوهم يغيِّبُ الشعور بالحاجة إلى الله عند حضور النعم.
وتأمل قوله تعالى وهو يبين هذه الحقيقة جل جلاله: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) وانظر إلى استخدام الفعل المضارع (يمسك) الذي يدل على الاستمرار والتجدد .. تدرك ما قلناه جلياً.
بقي بعد هذا تساؤل مهم، وهو أننا قد علمنا أن الضراعة إلى الله يتأكد طلبها عند الشدائد، وقد شرع الله لنا صلاة الاستسقاء عند القحط دون أيام الغيث ومقتضى ما قلتموه أن حاجتنا إلى الله في الوقتين سواء فلم اختصت مشروعية الصلاة بوقت الجدب؟
والجواب: أن الحاجة في وقت القحط أظهر وليست أشد، وكلما كانت دلائل الافتقار والحاجة أظهر .. كانت داعية الطلب أقوى وآكد، ألا ترى أن صاحب المرض الذي أخبره الطبيب بمرضه ولم يشعر بالألم إذا تهاون في طلب العلاج يكون معدوداً في الحمقى المغرورين فإذا صاحب مرضه شعور بالألم واستمر في الإعراض عن العلاج يكون فعله أشد قبحاً؟
وهكذا نحن في افتقارنا إلى الله يقبح بنا أن نستغني عنه في كل وقت؛ لأن دلائل الافتقار المعنوية ظاهرة للبصائر في كل وقت، فإذا ظهرت أدلة حسية على افتقارنا أيضاً من الآلام والمصائب .. يكون استغناؤنا وإعراضنا أشد قبحاً؛ لأن الأدلة المعنوية الظاهرة للبصائر انضمت إليها دلائل حسية ظاهرة للأبصار.
فشرعت لنا الضراعة الدائمة في كل وقت؛ لنخرج من الغفلة مطلقاً وشرعت أنواع خاصة من الضراعة في أوقات الشدائد؛ لنخرج من الغفلة الأشد قبحا.
فتبين بهذا أنه ليس في تشريع نوع من الضراعة إلى الله خاص بوقت الشدائد دليل على أن افتقارنا إليه في غيرها أقل أو أضعف؛ فإن الافتقار واحد، وإنما يتفاوت تأكد طلب الضراعة بتفاوت ظهور الأدلة القاضية بحاجتنا إليها، لا بتفاوت حاجتنا إليها.
على أن الشارع طلب منا أن نسمو بضراعتنا إلى الله عن أن نجعلها رهن ما ينزل بنا من المصائب، وجعل ذلك مفتاحاً لرفعها فقال: (تعرف إلى الله في الرخاء .. يعرفك في الشدة).
وختاما: يتضح لنا مما تقرر أن تحققنا بالاضطرار إلى الله ودعاؤنا إياه دعاء المضطر الذي لا تخطئه الإجابة ليس موقوفاً على مصيبة تنزل بنا، أو كارثة تحل بساحتنا وإنما يحتاج إلى شيء من اليقين بهذه الحقيقة وهيمنة سلطانها على المشاعر.
اللهم ارزقنا كمال الافتقار إليك في كل وقت، وأغننا بك عمن سواك
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
لا اله الا الله ، جزاكم الله خير مقال نافع سيدنا وشيخنا نفع الله بك وزادك علما ونورا وفتح علك فتوح العارفين وجعلك قرة عين . ويارب خلصنا من حجبنا وغفلتنا عنك وردنا اليك مردا جميلا ولا تكلنا لأنفسنا ،
ردحذفلا تنسانا سيدنا من دعائكم وذكرنا في مربع الاحباب ولديهم
عادل علوي الكاف