نسبة الأعمال والأوصاف الصالحة إلى النفس

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، وصلى وسلم على حبيبه ومصطفاه ، وآله وصحبه ومن تبع هداه .

شاهدت مقطع فيديو لأحد الدعاة إلى الله عز وجل، يقول فيه - بعد أن تحدث عن الخُلُق الذي يكون ناشئاً عن الحب لله ولخلقه من أجله، فيكون راسخاً لا يتغير، وعن الفرق بينه وبين ذلك الخُلُق المتصَنَّع المتكلَّف الذي لا يلبث أن ينسلخ عن صاحبه عند أدنى صدمة تواجهه، ثم أراد أن يبين كيف أن هذه الأخلاق هي المفتاح لحل المشاكل التي تعانيها المجتمعات، وأكد هذا بفشل النظام الإصلاحي الذي لا يقوم على هذا المبدأ، يقول في أثناء كلامه: ( ... السياسة فشلت، والاقتصاد فشل في تغيير الواقع ...  نحن المشايخ فشلنا ..)، ثم ذهب يتكلم عن سبب هذا الفشل وكيفية معالجته .

فقال لي بعض من كان قد سمع هذا المقطع وقد تذاكرنا حوله: كيف ساغ لهذا الداعية أن يقول: (نحن المشايخ) ؟! وهل يرى نفسه شيخا ؟!

ولعل هذا الأخ يريد أن قول الداعية هذا يعني أنه يرى نفسه ويعتقد أنه شيخاً، وهذا يتنافى مع التواضع والانكسار اللذان يحملان صاحبهما على ألا يرى نفسه شيئاً، كما نسمع من شيوخنا دائما.

ونبهني كلامه إلى أهمية فهم مراد ساداتنا الصوفية عندما يقولون: ينبغي للإنسان أن لا يعتقد نفسه شيئاً، ولا يرى لنفسه فضلاً وخيراً، فربما نظن أن معنى كلامهم أن الإنسان لا يكون متواضعاً إلا إذا نفَى عن نفسه كل وصف حميد، وحالٍ شريف، ولا يتم تحقُّقُه بصفة إلا بمقدار ما يتيقن بقلبه من بعده عنها.

 فيجب عليه مهما استكثر من صنوف العبادات أن يعتقد أنه لم يقم بعبادة قط، وإلا .. كان معجبا !! وأنه – ولو تفنن في أصناف العلوم – عليه أن يعتقد أن ليس لديه معلومة واحدة حتى لا يكون مغرورا !! وأنه - مهما كان نشاطه كبيراً في الدعوة إلى الله - عليه أن لا يظن - فضلاً عن أن يعتقد - في نفسه أنه صار داعياً إلى الله ...

وهكذا نمضي جادين في هذا السبيل، نأتي لخصال الخير واحدةً واحدة فنعتقد أنه لا بد لنا - حتى يتم لنا التواضع والانكسار والبعد عن العجب - أن ننفيها عن أنفسنا، غير ملتفتين في هذ المضي الجاد إلى أي إشارة تلوح لنا من إشارات الفرق بين ما يخفى العلم بحصوله للإنسان وما يكون العلم به ضرورياً له لا ينفك عنه ، ولا إلى أي حاجز يعترضنا من حواجز الفرق بين ما يقبل العقل فيه هذا النفي وما لا يقبل ..

ولأجل توضيح اللَّبس الحاصل في هذه القضية نقول:

لا بد أولاً أن نعلم أن الاعتقاد انفعالٌ يحدث في النفس عند قيام أسبابه، وليس فعلاً يملك الإنسان الاختيار في تحصيله أو دفعه عن نفسه؛ ولهذا فلا يمكن أن يؤمر الإنسان بالاعتقاد أو بعدمه، وكلُّ أمر جاءنا من الله تعالى بالإيمان الذي هو الاعتقاد فلا بد أن يحمل على أنَّ المراد به: الأخذ في الأسباب العملية التي توصل إلى ذلك الاعتقاد([1]).

فإذا تقرر هذا نقول: إن الإنسان بمجرد أن يقوم بفعل من الأفعال يحصل لديه اعتقاد جازم لا يملك دفعه عن نفسه بشكل من الأشكال بأنه قد قام بذلك الفعل وفَعَلَه.

وهذا الاعتقاد لا يمكن الأمر بتحصيله ولا إبعاده؛ لأنه حقيقة رسخت في القلب عند قيام مقتضاها، والحقائق لا تنقلب، فلا يتصور من أي إنسان لديه مسكة من عقل فضلاً عن ساداتنا الصوفية أن يأمر شخصاً بأن يعتقد أنه لم يفعل فعلاً قام به.

وما مَثَل من يريد أن يأمر الإنسان أن يعتقد أنه لم يفعل ما فعل، أو فعل ما لم يفعل .. إلا كمن يقول لمن هو جالس معه في حجرة واحدة: اعتقد [لا تخيل.. بل اعتقد] أنني وأنت الآن خارج هذه الحجرة !! أو يقول لمن جاوز السبعين من العمر: اعتقد أنك لا تزال طفلاً!! وهل الاعتقاد صلصال في يدي الإنسان يشكله على ما يشاء ويريد ؟!!

 

وهنا يرد السؤال بأنه:

ما دام الأمر كذلك، فما معنى نهي مشايخنا عن أن يرى الإنسان نفسه صالحاً، أو يعتقد أنه عابدٌ أو عالم مهما كثرت أعماله ومطالعاته، وما أشبه ذلك؟

والجواب: أن هذا الكلام وما جرى مجراه من كلام ساداتنا الصوفية - نفعنا الله بهم ورزقنا حسن الأدب معهم - يقصد به عدة معان صحيحة لا غبار عليها:

أولها: أن لا تعتقد أنك منتفعٌ بعملك الصالح، فتنسبه لنفسك على نحو من الاطمئنان والارتياح يُشعر بجزمك بالانتفاع به، فمعنى (لا تعتقد أنك عالم) مثلاً، أي: عالم منتفع بعلمك في الآخرة، واللفظ إذا أطلق ينصرف إلى الفرد الكامل، وليس المراد: أن لا تعتقد أنك فعلت العمل الصالح، أو قام بك وصفه.

فالمنهي عنه: اعتقاد الانتفاع بالعمل، لا اعتقاد تلبس الظاهر به، وإنما نهينا عن اعتقاد الانتفاع بالعمل وإن قمنا به؛ لأنه ليس كل من قام بالعمل الصالح انتفع به، واستحق به النجاة من العذاب، وحصولَ الأجر والثواب، بل يتوقف هذا على قبول الله سبحانه وتعالى للعمل وما يختم لك به، وهذا لا سبيل لك إلى العلم به، إنما غاية ما تعلمه أنك قد قمت بالعمل الفلاني أو الطاعة الفلانية، وما زاد على هذا القدر - وهو أنك منتفع بطاعتك هذه أو لا - فهذا لا سبيل لك إلى علمه؛ لأنه متوقف على قبول الله تعالى وعلى الخاتمة المغيبة عنك، ولا تأمن إن ادعيته لنفسك أن تكون قد وقعت في المنهي عنه بقول الحق عز وجل: (ولا تقف ما ليس لك به علم)، ودخلت في حظيرة الوعيد النبوي الشديد: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور([2])).

ولا يعنون أبداً بكلامهم هذا أنه يجب عليك أن تعتقد أنك لم تقم بالعمل الذي فعلته، ولم تمارس الأعمال الدعوية مثلاً من التعليم وغيره التي قمت بها، ولم تدن يوماً ما من العلم الذي طالما أتعبت نفسك في تحصيله، إلى غير ذلك؛ فإن هذه مغالطة للنفس لا يرضى من لن له أدنى مسكة من العقل بقبولها، فضلاً عن من اتسع عقله ، فضلاً عمن جمع إلى جانب سعة العقل العلم الغزير.

نعم؛ هناك بعض الأعمال والصفات الصالحة يصعب تحقق وجودها، وفي إدراك حصولها خفاء شديد، وهذا شأن عامة أعمال القلوب؛ كالإخلاص الذي لا يثبت إلا بانتفاء الرياء، وهو دقيق جداً حتى عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (أخفى من دبيب النمل([3]))، ولربما التبس على الشخص الحال، فظن أن ما يفعله خالصاً وهو مشوب بالرياء من حيث لا يشعر، فكان عليه - والحال هذه – أن لا يدعي لنفسه الإخلاص؛ لشدة خفاء العلم به، وإذا ادعاه الإنسان .. فلا يسلم غالباً من أن يدعي لنفسه ما ليس له، فيقع في المحذور السابق الذي تقدم شرحه.

ومع هذا .. فلو تحقق وجودها (أي الأعمال التي يخفى وجودها) في نفسه فلا حرج عليه في اعتقاد توفرها فيه؛ لأنه حينئذ - بعد قيام الدليل على وجودها فيه - يحصل لديه اعتقاد جازم بوجودها لا يقبل التردد، ولكن لا يمكنه أبداً أن يعتقد انتفاعه بها؛ لأن هذا تحكم بلا دليل، كما تقدم .

ثانيها: أن لا تعتقد أنك قمت بالعمل الصالح بنفسك، وبقوتك وحولك المجرَّدَيْن، فإن هذا ربما اعتقدته وهو قطعاً غير صحيح ، فعليك أن تدرك أنك لم تقم بالعمل الصالح بنفسك، بل إنما قمت به بتوفيق الله سبحانه وتعالى لك.

وهذا لا يتعارض مع الاعتقاد الجازم - الذي يحدث في نفسك عندما تقوم بالعمل - بأنك قد قمت به؛ لأنك تعتقد أنك قمت به بحسب الظاهر فقط، إذ في الحقيقة: لا فاعل إلا الله، فهو الذي أوجد الفعل وليس لك إلا الكسب، على ما هو مفصل في كتب التوحيد.

ثالثها: (لا تر أنك فعلت الطاعات) بمعنى أنك وإن فعلت كثيراً من الأعمال الصالحة وحزت قدراً وافراً، ونصيباً طيباً من العلوم .. فلا ينبغي لك أن تكرر على ذهنك ما من الله عليك به من هذه النعمة، على نحو يزيد من سرورك بها ويغيب عنك الشعور بخطر التقصير في شكرها، فتقرأ رسائل الحب الإلهي في ورقة توفيقه إياك لما يحب من الأعمال ويرتضي دون أن تتأمل في خطر تضييعك لحقها؛ لأن كثرة تكرير هذا على الذهن على النحو المذكور ربما أدى بك إلى أن تعتقد استحقاقك للثواب المترتب على هذه الأعمال، وهذا رجم بالغيب كما تقدم توضيحه.

ولهذا السر نُدِبَ المؤمن لأن ينظر في الطاعات إلى من هو فوقه؛ فإن رؤية من هم أشد تقصيراً منك تنبهك إلى طاعاتك، فربما يصيبك حينئذ الإعجاب بها.

ولهذا عدَّ الصالحون من علامات قبول العمل الصالح: أن يغيب عنك تذكر قيامك به وفعلك له، حتى جعل بعضهم من معاني قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) أن الله يرفعه عن قلب عامله، فلا يظل متذكراً له، وعن هذا المعنى عبر سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري في حكمه بقوله:

(لا عمل أرجى للقبول من عمل يغيب عنك شهوده، ويحتقر عندك وجوده([4])).

فهذه المعاني وما شاكلها هي المقصودة من قول ساداتنا الصوفية (لا تعتقد لنفسك فضلاً، لا ترى نفسك شيئاً)، وما شاكل وما أشبه([5]).

فإذا تبينت لنا هذه الحقيقة التي أوضحناها .. فإنه لا يتأتى لمن قام بشيء من الطاعات أن يحدث نفسه بأنه قد حاز ثوابها، ونال بها المنزلة عند الله، والرفعة على من سواه من الناس؛ فإن هذا تألٍّ على الله، وحكم على الغيب. كما أنه ليس عليه أي حرج في أن يعتقد ويقول بأنه: قد قام بالعمل الصالح الفلاني، وبتلك الطاعة الفلانية، ما لم يكن كلامه وإخباره بقيامه بها ناجماً عن فخره بالقيام بها، واستشعاره استحقاقَهُ بها المنزلةَ والرفعة الذي هو المحذور.

ولهذا فإن الصادق في فعل الطاعات لا يقطع لنفسه بالثواب الذي لم يتحقق وجود شرطه وهو الإخلاص والقبول والخاتمة الحسنة، ولا يبحث عن تعظيم الناس له متذرعاً بأنهم أمروا بتعظيم الصالحين وها هو ذا قد صار واحدا منهم عندما قام بالأعمال الصالحة؛ لأنه يعلم أن الصالحين حقيقةً هم الذين انتفعوا بصلاحهم وقَبِلَهم الله عنده؛ إذ من لم يقبله الله تعالى .. فليس بصالح، وإن فعل أفعال الصالحين.

 ولكنه إن قام بظاهره في مقام تعلم أو تعليم أو دعوة إلى الله أو أي مقام شريف .. يبحث عن الحقوق المتوجهة عليه بحسب المقام الذي أقامه الله فيه؛ ليقوم بالعمل بها، وهذه الحقوق قد لا تكون متوجهة إلا على من ترسم ببعض مظاهر الخير والصلاح؛ فإنه حينئذ يبحث عنها ويقول: أنا واحد ممن ترسم بهذا المظهر، فسأخاطب نفسي بهذه الواجبات والتكاليف، وليس هذا من الغرور والعجب في ناقة ولا جمل.

ولهذا فإننا نجد الإمام عبدالله بن علوي الحداد يؤكد لنا هذا المعنى، وهو يقول في مقام المعاتبة لنفسه والتوبيخ لها:

يا نفس هذا الذي تأتينه عجب               علم وعقل ولا نسك ولا أدب

فها هو ذا قد قال عن نفسه أنه عالم.

ومن لم يفهم ما قدمناه وظلَّ يعتقد أن من نسب إلى نفسه وصفاً حسناً بأي حال .. فقد خلع عن ربقته خُلُقَ التواضع .. سيقول: كان الأولى بالإمام الحداد أن يصف نفسه بالجهل؛ لأن هذا هو التواضع أن لا تعتقد لنفسك شيء، أما هو الآن يصفها بالعلم مع أنه يريد توبيخها! فما أشد تناقضه وأعجبه ؟!!

ولكن من أدرك ما تقدم إيضاحه سيفهم معنى هذا الكلام ويدرك أن مجرد الاشتغال بالعلم ليس بكافٍ في إحراز الفضيلة، وإن كان العلم فاضلاً؛ فإن العلماء منهم من يفوق مدادهم دم الشهداء، ومن من يكون أول من تسعر به النار.

فالإمام الحداد يوبخ نفسه فيذكر لها أن ظاهرَ حالكِ أنكِ من قبيل النوع الثاني إن لم يتداركك الله بالتوبة، يدل على هذا قوله في البيت الذي يلي البيت المتقدم:

وصف النفاق كما في النص نعلمه            علم اللسان وجهل القلب ...

وهكذا فإن كل عالم يريد معاتبة نفسه لو لم يعتقد أنه عالم .. لاحتمل أنه من عامة من يعذب لتقصيره، ولن يعظم خوفه ويخطر على باله أنه ربما يكون من أول من تسعر بهم النار إلا لو استشعر الكم الهائل من المعلومات التي متعه الله بها، فها هي ذي نسبة العلم إلى النفس قد صارت سبباً في شدة الانكسار والخوف، لا الاغترار والزهو.

وهكذا شأن الداعي إلى الله والعالم في كل ما يتوجه عليه من حقوق تختص بمن أقيم في مقام العلم والدعوة؛ إذ لو لم يستشعر اتصافه بالعلم أو الدعوة .. لما نشط أبداً في القيام بشيء من هذه الحقوق والتكاليف.

فالحاصل أن من أكرم بالعلم أو الدعوة إلى الله، أو العبادة، أو غير ذلك من الصفات الصالحة .. فإنَّ هناك مكرمات وخصائص له يستحقها، لكنه لا يستحقها بمجرد ترسمه بالمظهر، بل بتحققه بالجوهر، وهو أمر غيبي.

وهناك - بالمقابل - واجبات وتكاليف تتوجه عليه، وهذه يكفي في توجهها نحوه ترسمه بالمظهر، وإلا .. لما قام بشيء من حقوق العلم والدعوة إلى الله.

فهو إذا سمع لوماً وعتاباً توجه نحو الدعاة إلى الله بسبب تقصيرهم في القيام بواجب الدعوة .. خاطب نفسه - أول ما يخاطب - بهذا الكلام؛ لأن هذا الكلام ليس حكراً على من قَبِلَهُم الله فقط - كيف والقيام بمقتضاه هو السبيل لتحصيل القبول من الله ؟!! - بل هو لجميع من ترسم بمظهر الدعوة، وهو قد ترسم به بدون أدنى شك.

وإذا سمع ثناءً عليهم قال: صحيح أني مترسم بمظهرهم، ولكن لا أدري هل أنا من أهل هذا الكلام أم لا؛ فإنه ليس كل من قام بهذا المظهر استحق ذلك الثناء؛ إذ بعض المترسمين به يكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، وهكذا دواليك.

ولولا استشعار الخصلة الفاضلة التي أُكْرم بها .. لما قام بما عليه من حقوق تتوجه عليه باعتبار قيامه في ذلك المقام.

فطالب العلم مثلاً ما الذي سيمنعه عن الأكل في الأسواق والمطاعم الذي يخرم مروءته - مع أن الامتناع عن هذا في حق غيره ليس بفضيلة - لو لم يستشعر هذه الخصلة الفاضلة التي أكرمه الله بها؟

والذي يقوم بالتبليغ عن الله ويعلم الناس ويعظهم ما الذي سيسوِّغ له أن يرتدي زي العلماء لولا أنه يعتقد أنه أحدهم، وإن كان لا يجزم بكونه من المنتفعين، بل يرجو ذلك ويخاف فوته.

 وقد ذكر بعض الفقهاء أنه قد يحرم لبس زي الصلحاء على من لم يكن منهم، قال في إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين (2/894) :

(وتنخرم مروءة فقيه بلبس عمامة سوقي لا تليق به ، ومثل العمامة غيرها من سائر الثياب، فتنخرم مروءة فقيه يلبس ثياب سوقي، وكذا عكسه.

وكتب علي الشبراملسي على قول محمد الرملي : ( نعم، ما صار شعارا للعلماء يندب لهم لبسه ليعرفوا .. ) ما نصه: أي ويحرم على غيرهم التشبيه بهم فيه ليلحقوا بهم.

وبحث الزركشي أنه يحرم على غير الصالح التزيي به إن غر به غيره حتى يظن صلاحه فيعطيه، قال بعضهم: وهو ظاهر، إن قصد به هذا التغرير. فليتأمل.

ومثله من تزيا بزي العالم، وقد كثر في زماننا اهـ) اهـ بتصرف .

ولو أننا لم نفرق بين ما يتوجه للشخص وما يتوجه عليه من حقوق .. لقلنا: إن لبس العالم لعمامة العلماء يعني أنه يرى نفسه عالماً، وحينئذ .. فهو مغرور، وإن لم يَرَ نفسه كذلك .. فقد فعل محذرواً؛ إذ لا يبعد أن يغش غيره فيظن فيه أنه عالم وهو ليس كذلك، فلا مناص له من أحد الأمرين: إما الغرور وإما الوقوع في المحذور .. ولكن الأمر ليس كذلك، بل هو على التفصيل الذي أسلفناه.

وبعد هذا أقول لذلك الأخ: لعله قد تبين لك بما أسلفته من البيان أن هذا الداعي عندما قال: ( نحن المشايخ فشلنا ) .. لم يكن قد سَلِمَ من التعرض لمحذور الزهو ومخالفة قواعد التواضع فحسب، بل كان من المهم الـمُتَحَتِّم عليه أن يرى نفسه في ذلك الوقت من المشايخ، وإلا .. لما بحث عن سبب عجزهم عن الإصلاح ناهضاً بنفسه في سبيل تحقيقه؛ لأن هذه المهمة مناطة بالشيوخ.

وهكذا كل ما يتوجه عليه من الحقوق، كما سلف توضيحه والتمثيل عليه .

ولكنك لو سمعت هذا الداعية يقول: (الناس يجب عليهم احترام المشايخ وأهل العلم ...) ثم نسب المشيخة لنفسه .. فحينئذ قد يكون للاعتراض عليه وجه من حيث إن نسبة نفسه إلى المشايخ في هذا السياق ربما تتنافى مع ما يقتضيه حال من يجهل عاقبته من الحياء من أن يطلب لنفسه مثل هذا، على أن مثل هذا الطلب قد لا يخلو عن حظ للنفس في استجداء التعظيم من الناس.

نعم؛ الناس مطالبون باحترام جميع من ترسم بالمشيخة، وليس لهم البحث عن المقبول عند الله منهم وتمييزه عن غيره ليتوجه الإكرام والاحترام له دون من سواه؛ لأن أمر القبول مغيب ومقتضى تعظيم شرع الله تعظيم من حمل هذا الشرع مطلقاً.

لكن هذا في الناس الذين سيحترمون الشيخ أو العالم ، أما في حقه هو .. فإن من الغباء بمكان أن يأمر شيخٌ الناسَ باحترامه وإكرامه نظراً لما سيحصلونه من الثواب عند الله وهو غافل عن أن هذا ربما كان سبباً في هلاكه هو من حيث لا يشعر. وإن كان مع هذا عليه أن يفرح لهم إن رأى منهم إكراماً له من حيث هو حامل للشرع؛ إذ إن هذا دليل على أنه قد رسخ في قلوبهم تعظيم الشرع حيث عظموا حامليه، وليس له أن يفرح لنفسه بهذا الإكرام؛ إذ ربما كان حجة عليه يوم القيامة، وتوضيح الفرق بين الفرحين خروج عن المقصود لا يتسع له هذا المقام.

بل لا عليه أن يأمرهم باحترامه إذا اقتضى المقام (والاحترام هنا للتمثيل ويقاس عليه غيره) لكن شريطة أن يكون ذلك لا لأجله، بل لأجلهم، أي لأجل أن لا يفوتهم الخير المترتب على ذلك من حيث هو احترام مطلوب منهم شرعاً، ومن هذا القبيل تعويد المعلم تلميذه على الأدب معه ونحو ذلك، فالمهم أن لا يكون له في ذلك شيء من حظ النفس وإلا .. لكان ممن باع آخرته بدنياه، وطلب على مقام الخير الذي أقامه الله فيه عرضاً يسيراً من الدنيا.

ولما كانت مطالبة الخلق بالحقوق المترتبة على مقام خير أقيم فيه المطالِب بتلك الحقوق لا تخلو عن نوع خدش في كمال المروءة والحياء .. صان الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل ذلك غالباً، فقل أن تجد في السنة الشريفة تصريحاً منه صلى الله عليه وآله وسلم بالآداب التي تتعلق بالتعامل مع جنابه الشريف مباشرة، بل كان ربما يحصل تقصير فيها فيسكت عنها، ولا يباشر صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناس بها، فيتولى الحق سبحانه وتعالى تبيينها وتنبيه الناس إليها بكل وضوح، وتأمّلْ قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) .. تر ما قلناه جلياً، ونحو هذا لما أساء الأعراب الأدب في خطابه وطلب لقائه نزل في حقهم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) إلى غير ذلك.

وفي طي ذلك أسرار لا يتسع المقام لبسطها، وحسبنا ما قد انجر إليه القلم من الاستطراد في هذه المسألة، والله حسبنا ونعم الوكيل.

وختاماً .. شكر الله للأخ الذي اعترض على ذلك الداعية فحرك الخاطر لتحرير هذا الكلام، والله المسؤول أن يتوب علينا وأن يعيذنا من قصد غير وجهه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 



 ([1]) للاستزادة ينظر كلام الإمام العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه ( من سنن الله في عباده ) ص: 73.

 ([2]) رواه أحمد، والبخاري ، ومسلم، وأبو داود والبيهقي عن أسماء بنت أبى بكر. ومسلم  أيضا والنسائي عن عائشة. والطبرانى عن سفيان بن عبد الله الثقفى عن أبيه.

 ([3]) وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا).  وقد عبر هنا بالشرك عن الرياء وتأمل تبويب الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 223) لهذا الحديث بعنوان : [باب منه في الرياء وخفائه] ، وقال عن هذا الحديث رواه البزار، وفيه عبد الأعلى بن أعين، وهو ضعيف. وأورد في الباب الذي يليه شاهدا لهذا الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام وقد خطب : (يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك ; فإنه أخفى من دبيب النمل ) وقال : رواه أحمد، والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي، ووثقه ابن حبان .

 ([4])  ص: 25.

 ([5])  أفدت في بعض هذه المعاني التي يريدها السادة الصوفية بقولهم ما تقدم من شيخنا الفاضل عمر بن أبي بكر الخطيب، جزاه الله عنا خيرا وأدام النفع به.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مع ألفية التأليف

تسول الاحترام

لحظات الألم