مكانة السلالة في رسالة الإسلام
مكانة
السلالة في رسالة الإسلام([1])
إن
توظيف ما ورد عن الشارع في (آل البيت) في حكر الزعامة الدينية على سلالة جينية ..
ضلالٌ في الدين، ولقد تسبب ذلك في تضليل كثير من الناس، تارة باستغفالهم لقبول ذلك
التوظيف الممقوت، وتارة باستثارتهم إلى ردة فعل غاضبة تكر بالرفض والتشنيع على
فكرة آل البيت من أصلها وأساسها، بلا تفريق بين حقها وباطلها وخطئها وصوابها.
وما
أكثر ما يستغشي الباطل برونق الحق ويتبرقع بصورته، ولولا ذلك .. لما تمكنت حبائل
الباطل من استجرار عاقل.
وليس
من غرته صورة الحق الزائفة فقبل الباطل بأسوأ حالاً ممن حمله بطلان الباطل على رفض
الحق الذي تزيا الباطل به.
وسوف
أجعل ما أعلق به في هذه العجالة ملخصاً في النقاط التالية:
أولاً:
إن جعل الاهتمام بالجانب الأبوي لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إنما يكون في
مقابل الاهتمام بالجانب النبوي وعلى حسابه بحيث لا يقوى الأول إلا بقدر ما يضعف
الثاني .. مبني على توهم تنافر جانبي الأبوة والنبوة في شخصه الكريم صلى الله عليه
وآله وسلم، وهو وهم فاسد نشأ عن فهم خاطئ لبعض النصوص الشرعية، سببه الغفلة عن
مجموع ما ورد في القضية من النصوص الشرعية.
وبإيجاز
نقول: كما ورد من النصوص ما يفيد التركيز
على الجانب النبوي في شخصه الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم .. فقد ورد كذلك ما
يفيد الاهتمام بالجانب الأبوي وينبه إلى شرف القرابة الطينية من شخصه الكريم صلى
الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فإذا
أردنا معرفة موقف الشارع من القرابة النَّسَبِيَّة .. فليس أمامنا إلا النظر في
مجموع ما ورد عنه في المسألة، والبحث في كيفية التوفيق بين ما ظاهره التعارض
بمسالك التأويل الدلالي المنسجم مع آليات الفهم المعتبرة في السياق الإسلامي.
أما
أن نحتفل بما يخدم رغبتنا في المسألة ونديرَ ظهرنا لبقية النصوص الشرعية فيها؛
لئلا تُشَوِّش علينا ما يحلو لنا من تصور الموضوع .. فمما لا يرضاه منصف.
ولقد
ورد عن الشارع في فضل آل البيت ومن يدلي بقرابة النسب الطيني من رسول الله صلى
الله عليه وآله وصحبه وسلم ما لا مجال لإنكاره ولا سبيل إلى دفعه، فهلا سألنا أنفسنا:
كيف نجمع بين هذا وبين ما يفيد أن العبرة في الإسلام بالتقوى لا بالنسب، بدلاً من
أن نتجاهل تلك النصوص ونتغافل عنها؟
ولئن
كان الاهتمام بالجانب الأبوي لا ينسجم مع الجانب النبوي .. فكيف يصدر ما يفيد
الاهتمام بالجانب الأبوي من الجناب النبوي نفسه؟
إن
الاشتغال بالجواب عن هذا السؤال خير من التغافل عن تلك النصوص والتشبث بما يعارضها
فحسب.
وحسبك
أن تعلم أن سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول كما في صحيح البخاري (ارقبوا
محمداً في آل بيته) أي راعوه واحترموه وأكرموه فيهم، ولم يقل: ارقبوه في سنته
وشرعه فحسب؟ فهل غاب عنه أن العبرة إنما هي بالجانب النبوي في شخصه الكريم وأن
الجانب الأبوي قد نفاه القرآن، ولا فائدة فيه وأنه وسيلة لتسخير الرسالة لخدمة
السلالة …إلخ؟
ولست
هنا في مقام دفع التعارض بين ما يفيد أن العبرة في المنزلة عند الله بالتقوى وما
يفيد فضيلة النسب ونفعه لصاحبه. ولكني إتماماً للفائدة أقول:
إن
المنفي هو نفع النسب مجرداً عن أصل الإيمان بالله والتقوى، والمثبت هو نفعه لمن
كان مؤمناً له نصيب من التقوى وإن لم يصل به إلى درجة من انتسب إليهم لقوله تعالى:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) مع ما
يؤيد ذلك من الأحاديث الكثيرة، ولو كان لذرياتهم ما لهم من الأعمال .. لما كانت
هناك فائدة من ذكر إلحاقهم بهم لأن كلا منهم بلغ بعمله ما بلغه الآخر.
ثانياً: هل تنص آية: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين) نصاً واضحاً على (نفي الأبوة الجينية
السلالية للنبي، لصالح الأبوة الدينية الرسالية)؟
والجواب: إن ما تفيده الآية هو نفي أبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من رجال
المؤمنين أبوة حقيقة يحرم معها نكاحه بمن نكح عليها الابن، وليس فيها دلالة على
عدم أبوته لأبنائه (القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم والحسنين)، إما لأنهم لم
يكونوا حينئذ رجالاً والآية إنما نفت أن يكون أبا لأحد من رجال المؤمنين، أو لأن
المنفي أن يكون أبا لأحد من رجال المخاطبين وهم المؤمنون أما هؤلاء فهم رجاله صلى
الله عليه وآله وصحبه وسلم لا رجال المؤمنين، أو لغير ذلك مما قرره المفسرون مما مَآلُهُ
أن الآية ليس فيها نفي لأبوة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم للحسنين بدليل قوله
تعالى: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ) وعمله صلى الله
عليه وآله وصحبه وسلم بالآية عندما دعا الحسنين وأمهما عليها السلام، وعلياً كرم الله
وجهه.
فتبين أنه ليس في الآية دليل على عدم أبوته صلى الله
عليه وآله وصحبه وسلم الجينية لأهل البيت، فضلاً عن أن يكون ذلك النفي يصب في مصلحة
الأبوة الدينية‼
ثالثاً: كيف يكون النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أباً للحسنين وذريتهم مع أنهم
أبناء بنته والناس ينسبون لآبائهم لا لأمهاتهم؟
والجواب: إن تحديد ما به النسبة المعتبرة حكم شرعي، والشرع جعل أبناء فاطمة
أولاداً للنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ينسبون إليه، والأدلة على هذا بالغة الكثرة،
ومن أشهرها ما ثبت في تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) من قول أم سلمة:
لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين، فجلَّلَهُم
بكساء، فقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) الحديث أخرجه الترمذي، وهذا الحديث ينبهك إلى
أن نزول الآية في مناسبة تتعلق بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لا يقضي
باقتصار دلالة (آل البيت) فيها على نسائه الطاهرات بدليل فهمه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم للآية وتصرفه بعد نزولها.
ومنها حديث: (إن الله عز وجل جعل ذرية كل نبي في صلبه
وإن الله جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب) ومع أن الحديث قيل فيه ما قيل إلا أن
الحافظ السخاوي رحمه الله قال عنه: (وقد كنت سئلت عن هذا الحديث، وبسطت الكلام
عليه، ونبهت أنه صالح للحجة، وبالله التوفيق) ([2]) إلى غير ذلك من الأدلة، ثم اختلف العلماء هل انتساب
أولاد البنات إلى أبي أمهم خاص بذرية فاطمة أم لا، والكلام في المسألة شهير وقد
أفرد بالتأليف.
فتحصَّل مما سبق أن الإشكال في انتساب آل البيت إلى
النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من ابنته فاطمة سيكون لو لم يرد عن الشارع ما يفيد
صحته في حقهم، أما وقد ورد .. فلا معنى للإشكال، والله تعالى يختص نبيه بما شاء من
الأحكام، وهو الحكيم الخبير.
رابعاً: ليس في إثبات انتساب طائفة معينة من الناس إلى بيت النبوة ما يقضي بأنه
صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم نَكِرَة، يحتاج إلى من يُعْرَفُ بِهِ، ويُبْقِيْ ذِكْرَهُ
من بعده، فإن تمييز الله لآل البيت ليس موقوفاً على افتقاره صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى أن يعرف بنسل أو يذكر به، بل إنما عُرِفَ ذلك النسل وذُكِرَ بِهِ صلى
الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وليس في عظمة العظيم وتمام كماله بوصفه ورسالته ما يحبذ
انقطاع نسله اعتياضاً عنه بسمو الرسالة وعظمة الفكرة، بل إن وجود النسل مع ذلك خيرٌ
إلى خير، ونورٌ على نور وإن ضاقت به صدور الذين لم يستطيعوا أن يفهموا فكرة
السلالة إلا على أنها مُنَاكِفَة للرسالة.
ولئن راق لأحدنا بقاء ذكر بعض العظماء بفكرهم مع عدم وجود نسلهم .. فإن هذا لا يخوله أن يقترح هذه الحالة لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أيضاً، فإن الله تعالى يختار لحبيبه ما يريد، وهو في مرتبة وحالة لا يشرُفُ فيها بعظيم ولا مفكر، ويتشرف العظماء والمفكرون بمشابهتم لأحواله.
ولننظر بإنصاف إلى أصول سلالات العظماء بين الناس اليوم كالسلالة الملكية البريطانية والسويدية والبلجيكية والبلغارية والدانماركية وغيرها، هل في الناس من ينظر إليها بعين النقص لأنها لو كانت كاملة لما احتاجت إلى أن يبقى نسلها، وأن الأكمل هو اندثار ذرياتها؟ أم أن الكمال باندثار الذرية إنما يحسن لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم!
خامساً: هل تثبت لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم خصوصية ومزية على غيره سوى
الرسالة التي شرفه الله بحملها؟
والجواب: نعم؛ لأن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة كما قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فهو صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مع تميزه على الناس بالرسالة والوحي متميز بكرم
المعدن وطيب الأصل ومحبة الله له، وسريان أثر تلك المحبة إلى كل ذرة من جسده وقلبه
صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، إلى غير ذلك مما عَدُّ النجومِ أسهلُ من عدِّهِ.
وبهذا تعلم ضلال من يتوهم أنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم (من
دون هذه الرسالة بشر عادي يشترك مع غيره من الناس في المشتركات الجينية…).
وليس نحو قوله: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) دليلاً على أنه
من دون الرسالة بشر عادي! بل غاية ما في الآية أنه بشر يوحى إليه، لم تخرجه
النبوة عن طور البشرية فليسَ بِمَلَكٍ ولا جني حتى يقترح عليه المشركون بين الحين
والآخر خارقاً للعادة يطالبونه بالإتيان به، وهذا لا مراء فيه، أما أنه بشر عادي،
ولا يتميز عن البشر بشيء من الخصائص الأخرى سوى الرسالة فأين الدلالة عليه في الآية؟
ولئن كان (من دون هذه الرسالة بشراً عاديا) فلماذا
يأمرنا الله بمحبته وتعظيمه وتوقيره ويتفانى الصحابة في الولع به ويدينون الله
بذلك ويجعلونه أرجى ما يدخر للقاء الله؟
أليس في الأمر بتعظيم الرسالة التي يصبح الرسول من دونها
بشراً عادياً ما يغني عن الأمر بتعظيم ذلك البشر العادي؟
إن النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على أنه
ساعي بريد جاء برسالة وذهب ومهمتنا مع الرسالة ولا شأن لنا بمن أتى بها لأنه من
دونها بشر عادي .. أصلب ما يمكن أن يجعله المرء حاجزاً بين قلبه وبين دخول أنوار
الإيمان الكامل إليه.
إن الرسالة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ليست مجرد فكرة يقتنع بها عقلك ويرتضيها كما هو شأن الأفكار والرؤى التي
يتركها العظماء من بعدهم، ولكنها تحمل فوق ذلك كله حالاً ووجداناً تمتلئ به جوانحك
وتتحرك له مشاعرك وتخضع له رغباتك وتستكين له أهوائك.
سادساً: هل في فكرة آل البيت ما يغذي جانب العنصرية ويؤدي إلى محاكاة اليهود في زعمهم
أنهم (شعب الله المختار)؟
والجواب: إن أريد بها تعظيم آل البيت توقيرهم ومراعاة حرمة الرسول صلى الله عليه
وآله وصحبه وسلم فيهم دون أن يُقبل خطأ المخطئ منهم، ولا أن يُحْجَرَ الاجتهاد في الدين
عليهم، ولا أن يذاد غيرهم عن مائدة الوحي والشريعة التي بسطها الله لعباده إلى غير
ذلك .. فليس فيه عنصرية لا من قريب ولا من بعيد غاية الأمر أن فيه خصوصية.
ومن انتفخ واستطال لديه مفهوم العنصرية فأخذ يلاحق به
الخصوصية التي تأنف نفسه من قبولها وهي سنة الله في خلقه .. فقد أتى الدار من غير
بابه؛ إذ علاج مشكلته إنما هو في توطين نفسه على قبول الاختصاص الإلهي لبعض العباد
على بعض، لا في مدافعة سيول الاختصاص الإلهي بأعواد ادعاء رفض العنصرية.
وقف قليلاً أمام قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ
عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) وانظر بعينيك إلى
قوله: (آل إبراهيم) .. ألم يكن في مبدأ الرسالة ما يغني عن الالتفات إلى السلالة
ليقول (آتينا أتباع إبراهيم!) مثلاً ؟! ثم ارجع البصر كرتين إلى صدر الآية لتدرك
منبع المشكلة وحقيقتها.
وقل مثل هذا في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينْ،
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ).
أما إن أريد من فكرة آل البيت حجرُ الاجتهاد في الدين
عليهم، وتسخير تديُّن الناس في توفير مصالحهم الدنيوية .. فهذا مرفوض، وهو بلا شك
مما يبعث العنصرية البغيضة ويمزق مقاصد الشرع الشريف.
وفيما يتعلق بصون خصوصية آل البيت عن شوب العنصرية التي
يقع بعضهم في إثارتها بسوء فهمه وتصرفه .. كلام طويل ليس هذا مقام بسطه.
وإن تشوفت أخي القارئ إلى مزيد من التفصيل والتبيين في
المسألة فدونك كتاب (القول الفصل) للعلامة: علوي بن طاهر الحداد رحمه الله، فقد
أتى في المسألة بما يسْكُنُ لَهُ غليل المتطلع إلى التحقيق في المسألة.
وختاماً: شكر الله لمن رد عن وجه الإسلام تهمة العنصرية بصدق وإخلاص ولم يحمله ذلك
الرد على رفض الخصوصية التي أقرها الإسلام، وهدى الله الجميع لما هو الحق والهدى،
وجنبنا أسباب الهلاك والردى، وأرانا الحق حقاً ورزقنا اتباعه، وأرانا الباطل
باطلاً ورزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
وصحبه وسلم.
كتبه: حامد بن عمر بن محمد بن سالم بن حفيظ.
تريم الغناء، 8 رجب الحرام، 1443هـ
تعليقات
إرسال تعليق