من وحي رمضان: (الملك لله)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

من وحي رمضان: (الملك لله)

وقف محسن كريم ذات يوم على عبد ضعيف لا يملك شيئاً، فأنزله في داره، وأتاح له ما لذ وطاب؛ من المأكول، والمشروب، وصنوف اللذائذ، وكان المسكين كلما أخذ شيئاً من ضيافة المحسن .. أخذه على استحياء، وهو مغمور بالخجل.

وما أن مرت الأيام حتى ألف المسكين ذلك الإكرام، وأصبح مع مرور الوقت ينسى شيئاً فشيئاً ماضيه وحالته السابقة، فيغيب عن باله أن ما هو فيه مجرد تفضل من ذلك المحسن، ففارقه ذلك الحال من الحياء والأدب، ثم لم تزل العادة والإلف يعملان فيه عملهما حتى توهم أن ما هو فيه حق له، فغدا يتصرف فيه بما يحلو له، ويعطي ويمنع، ويخالف في ذلك بكل جراءة ما يحبه منه المحسن الذي تفضل عليه بكل ذلك.

فلما رأى ذلك المحسن .. حبس عن المسكين في يوم من الأيام ما عوده إياه، وقطع عنه ما كان يواصله به، وحينما وجد المسكين نفسه ممنوعاً مما كان يتمتع به .. ثاب إلى رشده، وتنبه إلى أن ما كان متاحاً له .. لم يكن ملكاً له، وإلا .. لما مُنع عنه.

وفي اليوم التالي .. عاد المحسن إلى عادته من إكرام المسكين، فتلقى المسكين الإكرام بذلك الحال الأول من الحياء والامتنان والأدب؛ إذ زال عنه بانقطاع الإكرام ليوم واحد ما أوهمته إياه الأيام من تملكه واستحقاقه لما كان متاحاً له.

لقد جئنا إلى الدنيا لا نملك شيئاً، فوضع الله في أيدينا ما شاء من المال، وفي أجسادنا ما شاء من العافية، وأتاح لنا ما شاء من صنوف النعم، وعندما يتفكر المؤمن بهذه الحقيقة يغمره شعور بالخجل من إكرام الله وإحسانه، يحمله ذلك الشعور على مراعاة الأدب معه تعالى في التصرف في نعمه.

ولكن حجاب العادة والإلف كثيراً ما يحجب الإنسان عن هذا الذي قد أيقن به وهو لا يشك فيه، فيتوهم أن له ملكاً وحقاً مطلقاً فيما بين يديه.

فبينما هو في غمرة ذلك الوهم إذ يأتي شهر الصيام يمنعه عن هذه النعمة التي ألفها، وعن تلك اللذة التي تعودها، وذاك المحبوب الذي أدمن عليه.

فيثوب حينئذ إلى رشده، ويتذكر ذلك الذي طالما تناساه من أن ما بين يديه ليس له، وأنه امتنان خالص، وفضل محض، لا يملك منه ذرة.

يدركك العطش والجوع في نهار رمضان، والماء أمامك، وبين يديك الطعام اللذيذ، وقد اشتريته بحر مالك الذي اكتسبته من عرق جبينك، ثم تنظر إليه والجوع يقرص بطنك دون أن تستطيع تناول لقمة منه؛ لأن الذي يملكه منعك منه الآن.

ولولا أن الذي منعك منه هو المالك له .. لكان منعه هذا فضولاً وتدخلاً فيما لا يعنيه، ولما كنت ستستجيب لأمره.

ولكنك تستجيب لأمره وتمتنع، أفلا يذكرك هذا بأنك وما تملك مملوك لواحد؟

أنت لا تستطيع أن تأكل من هذا الطعام في هذا الوقت حتى حبة واحدة.

لأنك لا تملك منه حتى حبة واحدة، ولو كنت تملكها حقيقة .. لما منعك أحد منها.

تنظر في رمضان إلى الناس قبل المغرب والجوع قد بلغ بهم مبلغه، وهم متحلقون حول الطعام، تنظر إليه أعينهم، ولا تمتد إليه أيدهم.

وكأنهم مدعوون في ضيافة ينتظرون صاحب الدار أن يقول لهم: تفضلوا كلوا.

نعم .. هكذا هم.

ينتظرون صاحب الضيافة جل جلاله أن يأذن لهم، وقد جعل لهم غروب الشمس علامة على إذنه.

أفلا يبعثك هذا على تذكر أنك في ضيافة ربانية، يفتحها الله لك طول العام ولا يمنعك منها إلا سويعات في أيام معدودات.

ثم ألا يبعثك هذا على الخجل من الله وشكره على نعمته وتسخيرها فيما يحب منك؟

أنت طول العام تعلم أن ما وضعه الله في يد غيرك ليس ملكك، ولا ينبغي أن تتصرف فيه حتى يأذن لك مالكه، ولكنك في رمضان تعلم أنه حتى ما وضعه الله في يدك ليس ملكك ولا ينبغي أن تتصرف فيه حتى يأذن لك مالكه.

الله وفقنا للفهم عنك، وارزقنا كمال الأدب معك، ووفر حظنا من الصوم، ومن كل خير تجود به على عبادك، يا من هو على كل شيء قدير.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تسول الاحترام

رسالة العيد

فرحة الإفطار