الداعي وأهل المعصية

(لا تصحب من لا يحبك إلا معصوما)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مرَّتْ معنا في مجلس الروحة (وهو مجلس العلم الذي يكون بعد العصر) يوم أمس بمسجد باعلوي عندما قرأ القارئ في «الرسالة القشيرية» قصةٌ عجيبة، استلفَتَتْ نظري وجذَبَتْ برداءِ تأملي وانتباهي، إذ لامست إشكالا كثيراً ما نعانيه وطالما غفلنا عنه.

ولِأَدَعْكَ أخي القارئ مع القصة قبل أن أُدْلِي بتعليقي عليها:

حكى الإمام أبو القاسم القشيري في «الرسالة» (ص: ٢٩٨) أن أبا عَمْرو بْن نجيد فِي ابتداء أمره اختلف (أي: تردد) إِلَى مجلس أَبِي عُثْمَان (واسمه سعيد بن سلام الحراني) فأثَّرَ فِي قلبه كلامُهُ، فتابَ، ثُمَّ إنه وقعت لَهُ فترةٌ (أي انقطاعٌ ورجوعٌ إلى ما كان عليه) فكان يهرب من أَبِي عُثْمَان إِذَا رآه، ويتأخرُ عَن مجلسه، فاستقبله أَبُو عُثْمَان يوماً (أي: لقيه في الطريق في مقابله) فحاد أَبُو عَمْرو عَن طريقه، وسلك طريقاً أُخْرَى، فتبعه أَبُو عُثْمَان، فَمَا زال يقفو أثره حَتَّى لحقه، فَقَالَ لَهُ: يا بُنِي، لا تصحب من لا يحبك إلا معصوما،  إِنَّمَا ينفعك أَبُو عُثْمَان فِي مثل هذه الحالة.

قَالَ: فتاب أَبُو عَمْرو بْن نجيد وعاد إِلَى الإرادة ونفذ فِيهَا) اهـ ومعنى نفذ فيها دام عليها واستمر على الطاعة.

ولا أظنك بحاجة إلى أن أعيد لك صياغة القصة فهي واضحة، وحاصلها أن الشيخ الواعظ عندما لقي ذلك الهارب الذي نكث العهد واستحى أن يقرب من الواعظ لحقه الواعظ وجرى خلفه حتى أدركه فسكّن قلبه وطمأنه بأنه مقبول على ما فيه فلا داعي للهرب والاستخفاء، قائلا قولته العظيمة: يا بُنِي، لا تصحب من لا يحبك إلا معصوما،  إِنَّمَا ينفعك أَبُو عُثْمَان فِي مثل هذه الحالة، ومعناها: لا تصحب من لا يحبك ولا يقبلك إلا إذا رآك معصوماً فبمجرد أن تقع في معصية يهجرك ويتخلى عنك.

 

والدروس التي ينبغي أن نتعلمها من هذه القصة كثيرة، وأهمها:

أن ندرك واجبنا في دعوة الخلق إلى الله، وأنها قائمة على الاتساع في قبول الموافق والمخالف، المقبل والمعرض، الطائع والعاصي.

أن نجري خلف من يتحاشون قربنا بسبب ما يقارفونه من الأخطاء، نجري خلفهم لا لننشر لهم عريضة المواعظ ونرفع عليهم عصا اللوم، ولكن لنوضح لهم قبل كل شيء أننا إلى جنبهم ومعهم، وأننا مستعدون لقبولهم على ما فيهم، بل أننا إنما وُجِدْنا بينهم لنكون لهم في مثل هذه الحالة حالة المعصية والغفلة التي يستغل الشيطان فيها وقوعهم فيها ليفتح لهم منه باب اليأس من رحمة الله، (إنما ينفعك أبو عثمان في مثل هذه الحالة).

أن نتخلص من وهم الغيرة على الدين الزائفة التي ربما حملتك على إقصاء العاصي ورفضه، فزاده ذلك إمعانا على ما هو فيه، وكان ذلك الإمعان والتمادي في مخالفة الدين هو النتيجة التي أثمرتها تلك الغيرة على الدين!!

أن نبين لهم بحالنا قبل مقالنا أنهم مهما عصوا وغلبتهم أنفسهم وضعفوا أمامها فلن يضيق ذرعنا بهم، ولن ينطوي بِشْرُنَا عنهم، ولن نفرط في حق صحبتهم، (لا تصحب من لا يحبك إلا معصوماً).

بل نقول لهم: إن وجدتمونا لا نتحملكم حال عصيانكم فهذه علامة على أننا أخفقنا في مهمتنا، فاتركونا وابحثوا عن سوانا يأخذ بأيديكم ألى الله، (لا تصحب من لا يحبك إلا معصوما).

أن لا نعلّم الناس الخوف منا أكثر من الخوف من الله فيستحي أحدهم أن يظهر بنقصه وضعفه البشري أمامنا، وهو لا يستحي من الله قط أن يواجهه بضعفه؛ لأنه يدرك أنه لن يقوي ضعفه إلا هو عز وجل.

وأن لا ننزعج من الناس عندما نراهم يتصنعون أمامنا بالالتزام مع أنهم على حقيقة الأمر ليسوا كذلك فيما بينهم وبين الله؛ لأننا نحن السبب في ذلك، وجدوا في ربهم الإمهال والرحمة ووجدوا فينا الاستعجال والشدة.

فقبل أن نسألهم: لماذا تتظاهرون بهذا لأجلنا؟ هلا فعلتموه لله، قبل ذلك نسأل أنفسنا أولاً ونقول: هل صرنا بين الناس أشد من الله حتى يفعلوا لأجلنا ما لا يفعلونه لأجل الله!!

أن نعلمهم بحالنا قبل مقالنا أننا مهما أبغضنا معاصيهم فلن نبغضهم، ومهما ساءتنا ظواهرهم فلن نحكم قط على قلوبهم وسنظن بها الخير عملا بما يحبه الله منا (لا تصحب من لا يحبك إلا معصوما).

تخيل أن هناك من وقع في معصية وظهر خبر وقوعه فيها، ثم عاد ثانيا، ثم ثالثا، فدعا عليه أحد أو سخر منه وانتقصه، ففي صف من ستقف أيها الداعي إلى الله؟ هل ستقف في صف العاصي أو في صف الذي سخر منه وانتقصه؟

هذا السؤال إن لم تكن أنت الذي ستنتقصه أصلاً.

ولكن هناك صحابي لم يقع في معصية عادية، بل في كبيرة من الكبائر، وهي شرب الخمر، ولم يقع فيها مرة واحدة، بل تكرر منه الوقوع فيها، ثم لما نال منه أحد الصاحبة وقال: «أخزاه الله» أو «لعنه الله» كما في رواية أخرى لم يؤيده النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه كان من المتوقع السكوت عنه، خصوصا وأن المعاصي سبب الخزي والطرد من الرحمة الذي هو اللعنة، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم هب مدافعا عن ذلك الذي وقع في الكبيرة وقال: لا تكونوا عون الشيطان، ثم صرف له شهادة بالمحبة يتمناها ويكابد لأجلها العباد وأصحاب قيام الليل والعلماء فقال حالفا بالله: «فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله» كما في البخاري وغيره.

وفي هذا الحديث معنى لطيف يستدعي منا التوقف معه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تكن عون الشيطان».

يا ترى ما الذي فعله ذلك الذي أعان الشيطان؟

هل فعل المعصية؟    لا.

هل أيد العاصي وشكره على معصيته؟ لا، بل إنه لعن العاصي.

وهل الشيطان يلعن العصاة حتى يكون الذي يلعنهم معينا للشيطان أم أنه يفرح منهم؟

لا شك أنه يفرح منهم ولا يلعنهم.

إذن فكيف أصبح اللاعن لهم معينا للشيطان؟

لأن نتيجة فعله هي نفس نتيجة فعل الشيطان وإن تناقض الفعلان في الظاهر، فالشيطان يدعو للمعصية بتزيينها فتقع المعصية، وهذا يدعو إليها بسبّ العاصي وشتمه فيهيّجه للإصرار عليها فتقع منه المعصية مرة أخرى، فالشيطان يفتح باب الوقوع فيها بالوسوسة وهذا يغلق باب الخروج منها بالازدراء والتنفير، فاتحدت المهمة واختلف شكل العمل، وبذلك تحقق التعاون الكامل بينه وبين الشيطان.

وختاماً قد يقول قائل: أليس في هذا الذي تدعو إليه تحفيز للعصاة على معاصيهم، وتشجيع عليها، وأين الغضب لله؟ وأين زجر العاصي؟

والجواب: لا والله، ليس فيه شيء من ذلك، فشتان بين إقرار العاصي وتشجيعه وبين الاتساع لقبوله مصاحبا وأخاً في الله ما دام يقع في معاصيه عن ضعفٍ أمام نفسه ويود الخلاص منها، وهل أرجى لبعده عن المعصية مثل صحبته لمن يحب له التخلص من معاصيه؟!

وشتان بين إقرار العاصي وتشجيعه وبين الأدب مع الله في عباده بعدم الحكم على أحد منهم والجزم بحقيقة حاله عند الله.

وشتان بين إقرار العاصي وتشجيعه وبين التوقف عن التدخل في شأن الربوبية والافتئات على الله بعقوبة المخالف من عباده ومحاسبته، اللهم إلا ما فوضه الله إلى ولي الأمر من إقامة الحدود والتعزير المشروع ولكن هذا لا شأن للدعاة إلى الله به الذي يأتي هذا الكلام في سياق مخاطبتهم.

أما الجواب عن قولنا: (وأين الغضب لله)؟ فهو أنه موجود في زجر نفوسنا عن تنفير العصاة عن الله الذي حرمه الله علينا نحن قبل أن يكون موجودا في زجر العصاة عن المعصية التي حرمها الله عليهم هم.

على أننا لا ننكر جدوى الزجر بالإعراض ونحوه في بعض الحالات وتأثيره في ردع المخالف، ولكن دائرة جدواه ضيقة، لا تتعدى غالبا من لك ولاية عليهم بتربية ونحوها، بالإضافة إلى أنه مشروط بالأمن من ضرره على المخالف ورجاء نفعه له، وقد كاد ذلك يصبح نادرا خصوصا في هذا الزمان، ثم إنه بضوابطه وفي وقته لا يعارض ما قدمناه كما يظهر بالتأمل.

والكلام يحتمل من التفصيل فوق ما ذكر، وخصوصاً ما يتعلق بجانب الجمع بين واجب الإنكار وعدم التنفير وضوابطه الشرعية، وأرجو من الله أن يتيح لي فرصة عن قريب يسترسل فيها القلم ببيان ما يتصل بهذا الباب، والله الموفق للصواب.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

كتبه: حامد بن عمر بن حفيظ

الجمعة 25 شعبان 1444هـ


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تسول الاحترام

رسالة العيد

فرحة الإفطار