رسالة العيد

 

(رسالة العيد)

بسم الله الرحمن الرحيم

ما كادَ رمضان يطوي بساطه، ويلمُّ شعثَ بضاعته التي ما برح يعرضها علينا ثلاثين يوماً، ويقوِّضُ خيام بهجته وأنسه التي كان قد احتوانا فيها، ويمتطي ظهر الفراق، ويمضي راحلاً إلى ربه شاهدا للكل بما لهم وبما عليهم، ويولي منصرفاً ويده تشير بالتوديع، والقلب يتفطر أسى على فراقه والعين تسيل حزناً على رحيله .. ما كاد يحصل ذلك كله حتى طرق عليَّ الباب طارق العيد، ويقول: لُيِخَفِّفْ عنك ما تجدُهُ من فراق صاحبي أنني قد وصلت إليك، ومعي ما معي، فافتح الباب لي، وأعِرْنِيْ سمعك لتعي عني ما أقول:

·      رمضان عطية الكريم جل جلاله، والكريم لا يرضى لعطاياه أن تُشَاب بالحزن، لا في أولها ولا في آخرها، بل إن من يتلقى كرم الكريم تجده أفرح ما يكون عندما يتم له أخذ العطية، أفيرضى لك أكرم الأكرمين أن يأتي عليك ميعاد تمام عطيته وأنت في حزن وكآبة؟! حاشاه جل جلاله .

وها قد أرسلني في إثر عطيته إليك، وجعلني ميقاتاً لفرحك وسرورك، فاقدر لي قدري.  

·      أَعْلَمَكَ اللهُ تعالى أن شهر رمضان شهر عظيم، وأبان لك ذلك في آيات وأحاديث كثيرة، ثم أراد منك أن تضمَّ إلى تصديقك القلبي بذلك تصديقاً عَمَلِيّاً من خلالي، فتلبسَ فيَّ الجديد وتُظْهِرَ فيَّ الفرح وتتلقى التهانيَ من الناسِ كما هو حال من أعطي شيئاً كبيراً وجائزة عظيمةً جداً، وبذلك تعلن لنفسك وللعالم من حولك بالعمل والتطبيق أن رمضان شيء كبير وعظيم.

·      قد عَلِمْتَ أنه لأجل الفرح الحاصل لك بفضل الله عليك في رمضان وفي يومي هذا ذهبتَ تلبَسُ الجديد وتُظْهِرُ الزينة، فكان ذلك ثمرةً للفرح ونتيجة له، فإياك أن تجعل منه سبباً للفرح ومنشأً له ، وتنسى أصل السبب الذي لأجله فرحت وتغفل عن تلمُّسِ نصيبك منه، فتكونُ كذلك الأحمقِ الذي يمتلئ فرحاً يوم تخَرُّجِهِ من الجامعة بثوب التخرُّجِ، ولا يكترثُ بشأن المرتبة العلمية ولا الشهادة التي لبس ذلك الثوب من أجلها كيف هي وما مستواه فيها، المهم أنه لبس ثوب التخرج وتصوَّرَ مع الناس حتى لو كان راسباً

·      شرع الله لك فيَّ التكبير، ولربما تساءلت عن سر اختيار التكبير بخصوصه دون غيره من الأذكار مع أني مظهرُ فرحٍ بالنعمة، وهو يقتضي الحمدَ بحسب الظاهر، ولكن لعل من سر تشريع التكبير أنك الآنَ في وقت تمام النعمة وإكمال العدة وبلوغ الخاتمة من هذا الموسم العظيم، ولربما أخذتك نشوة الفرح بالتمام وبعظمة النعمة عن نية طلب الزيادة وترقب الخير فيما بعد هذا الموسم، وتوهمت أنك في نهايةٍ من الأمرٍ، ولكن هيهات، أين النهاية ! أما سمعت قول ربك: (وأن إلى ربك المنتهى) ! فأنت تردد (الله أكبر) لتذكر نفسك بأنه أكبر من أن ينقص ما عنده بانقضاء موسم ما أو ينتهي جوده بانتهاء زمن من الأزمان، وأكبر من أن تكون همة عبده في الإقبال عليه مرهونة بحين دون آخر.

·      وثَمَّ في التكبير سر آخر، وهو أن الله قد جعلني موسماً للفرح والسرور، والناس يُظْهِرُونَ فيَّ زينتَهُمْ، ولربما امتدت عين قلبك لشيء من بريق الزينة والجمال الظاهر وكاد برونقه أن يشغلك عن حقيقة ما أنت به فرح ومسرور، فأنت تُرَدِّدُ (الله أكبر) لتذكر نفسك بأنه أكبر من أن تشغلك عنه زينةٌ كنتَ تريدُ منها التعبيرَ عن الفرح بما جاءك منه ثم أنت تلهو بها وتشتغل عنه !  

·      وثَمَّ سرٌّ ثالث - وأسرار تشريع مولاك لا نهاية لها – وهو أن التكبير شعار النصر، فمن ثَمَّ يصدحُ به المجاهدونَ كلَّما أحرزوا انتصاراً وتقدماً، وها أنت قد انتهيت من جهادٍ دامَ ثلاثين يوماً، تجاهد فيه نفسك على حبسها عن شهواتها امتثالاً لأمر ربك واسترضاءً له، ورياحُ رغباتِهَا المتهيجةِ تعصفُ بك لتحيدَ بك يمنةً ويسرةً وأنت ثابت على الجهادِ، مستمرٌّ على المقاومةِ ، حتى انتهى الموسم الكريمُ، ووضعَتْ هذه الحربُ أوزارهَا وأنت منتصرٌ على نفسِكَ، مُجَوِّعٌ لها ومُعَطِّشٌ لأجل ربك، أفلا يستحق هذا الانتصار العظيم أن تكبر ؟!

ألا تدري بأن أعدادا من المسلمينَ لم يثبتوا في هذا الجهاد، وخسروا المعركةَ حيث غلبتهم نفوسهم وبارزوا الله بالإفطار في رمضان، وأنت قواك الله وأعانك حتى تنتصر عليها وتكون أنت الغالب، أفلا تكبر ؟!

 

وهنا قاطعت العيد بلطف وقلت له: كلامك لا يمل، ولكن حان وقت قيامي لأتهيأ للخروج إلى الصلاة.

فقال لي: وهو كذلك، وكيف يؤخرك العيد عن صلاة العيد؟

فقلت: جزاك الله خيراً، وحسبي ما قد سمعته منك الآن، وإني لمترقب منك المزيد عند عودتك في العام القادم في خير وعافية، فعساني ممن يدرك ذلك الحين بأتم العوافي والألطاف، وكان هذا آخر المطاف.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تسول الاحترام

فرحة الإفطار