تسول الاحترام

 

تسول الاحترام

 

لآل البيت فضائل ثابتة ، ومنكرها مكابر ، وليس هذا محل حديثي هنا ، وإنما ذكرته لئلا يتوهم القارئ مما سيأتي تقليلاً من شأن هذه الحقيقة ، أو تهويناً لها.

 

ثم إنه بمقتضى ما ثبت لهم من الفضيلة بانتسابهم إلى جناب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كان من تمام تعظيمه عليه وآله الصلاة والسلام أن يتجلى أثر ذلك التعظيم في المحبة لأهل بيته والتعظيم لهم ؛ إذ ولد الحبيب .. حبيب ، ومن أحب أحداً .. أحب سائر ما اتصل به .

 

ثم إن قوة الإيمان لدى كثير من المؤمنين دفعتهم إلى بعض الممارسات والسلوكيات التي تعبر عن تعظيمهم لآل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بل عن تعظيمهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن في أهل بيته كما قال سيدنا الصديق رضي الله عنه فيما رواه البخاري : (ارقبوا محمداً في أهل بيته).

 

مِنْ ذلك في بلدنا مثلاً أنهم كانوا لا يصافحون أحداً من آل البيت وإلا وأخذوا بيده يقبلونها ، وأنهم يخصصون آل البيت ببعض المراسيم والألبسة في المناسبات ، إلى غير ذلك .

ثم لما درج على هذا الأمر جيلٌ بعد جيل أصبح جزءاً من عادات الناس وتقاليدهم الاجتماعية.

 

كان كل ذلك بدافع من إيمانهم بالله وحبهم لحبيبه صلى الله وآله وسلم في أول الأمر ، بالإضافة إلى ما ثبَّتَهُمْ على ذلك مما شاهدوه في أهل البيت من أخلاق النبوة وصفات الفتوة، ثم صار الأمر لدى كثير منهم عبارة عن عادة مجتمعية وثقافة سائدة مجردة عن دافع الإيمان .

وليس في ذلك شيء من الجهل ولا الذلة ولا المهانة لأولئك المحبين ، ولست بصدد بيان ذلك هنا ، ولسوف تفهم هذا إن امتلأ قلبك بمحبة إنسان ثم رأيت نفسك كيف تندفع تلقائيا لإدخال السرور على أبنائه وإكرامهم حتى ربما قدمتهم على أبنائك وأنت متلذذ فرحان ، ومن ذاق .. عرف ، وخذها من عاشق ذائق يحلف ويقول : (والله لقرابة رسول الله أحب إلي أن أصل من قرابتي) ذاك هو الصديق رضي الله عنه كما روى البخاري.

وهذا كله ليس موضوع مقالي ولكنه استطراد مفيد إن شاء الله .

 

وبعد هذا أقول لإخوتي من أبناء آل البيت:

 

تدري ما هو البيت الذي تنتمي إليه عندما يقال عنك إنك من آل البيت؟!

 

إنه بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمته ضيوفه عليه الصلاة والسلام، وهل أحد أولى بخدمة الضيوف من آل البيت ؟!

 

نعم، الضيف يشعر بمنة المضيفين من أهل البيت عليه ، ويشهد إحسانهم ، ويظهر لهم الإكرام ، لكن هل يحسن من أهل البيت أن يتطلبوا هذا ويسألوه من ضيوفهم ؟

 

تخيل أنك أقمت ضيافة كبيرة ، ولما توارد عليك الضيوف جعل أبناؤك يترفعون على الضيوف ويتعالون عليهم ويتبجحون أمامهم بأنهم أهل البيت وأصحابه بدلاً من أن يكونوا في خدمتهم وإكرامهم ، كيف سيكون موقفك منهم ؟

 

هل تحب أن يكون هذا موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك وأنت تتعالى على الناس بأنك من أهل بيته بدلاً من أن تجعل ذلك سبباً يحملك على خدمتهم وإكرامهم ؟!

 

ثم إنك قد علمت يا أخي أن مما دفع بالناس إلى تعظيم آبائنا هو ما كان آباؤنا عليه من خلق محمدي ، فإذا وجدت الناس اليوم قد تركوا ما كانوا عليه .. فينبغي أن ينبهَك هذا إلى أننا نحن أيضاً قد تركنا ما كنا عليه ، فنبدأ بأنفسنا ونصلحها.

 

وليت المشكلة تنتهي عند تركنا لأخلاق آبائنا فحسب ، وإنما المشكلة أن أخلاقنا كثيراً ما تصرف المحب منهم عن إظهار محبته ، وربما سلبته شيئاً منها أو أفقدته إياها ، وبقطع النظر عن كون هذا عذراً صحيحاً في انعدام المحبة أو لا .. فيكفينا أننا نصبح بأخلاقنا سبباً في تباعدهم عن المحبة ،  ومعينين لهم عليه ، ونخشى أن نطالب يوم القيامة بعهدة إعانتهم على كُرْهِ آل البيت ، فنحن لم نكتفِ بتفويت فضيلة الأخلاق اللائقة بآل البيت حتى ضممنا إلى ذلك المشاركة في إثم المبغضين لهم بإعانتنا لهم على هذا البغض بالتكبر وسوء الخلق.

 

واضمم إلى ما سبق ما يترتب على سوء أخلاقنا من تشويه صورة السابقين من آل البيت ، فإن الناس يقيسون هذا بذاك ، ويتوهمون أنه هكذا يكون الأشراف في كل زمان ، وما كل أحد يقرأ التراجم ، ولا كل أحد يعرف التاريخ ، وإنما يتعرفون على آبائنا من خلالنا ، فهل نقابل إحسان آبائنا الذين تركوا لنا كل جميل وزرعوا لنا المحبة في قلوب الناس هل نقابل ذلك بتشويه صورتهم وحمل الناس على سوء الظن بهم بما يشاهدونه فينا ؟!.

 

وقد ذكر الجد محمد بن سالم بن حفيظ رحمه الله في ((محاضراته)) عن بعض زعماء العلويين في وقته أنه يقول لأولاده ما معناه : ( يا أولادي نحن لا نلوم بعض الناس على ما يصدر منهم من السب على جدودنا الأطهار ؛ فإنهم ظنوا أرباب التوابيت مثلنا، فتكلموا بما زينت لهم شياطينهم) ، وعلق الجد محمد بن سالم على هذا بقوله: (فنعوذ بالله من هذه الحالة التي لم تضرنا نحن فقط، بل ضرت أيضاً أهلنا الصالحين، وآباءنا المتقين، وسوف تضر أولادنا من بعدنا بالأولى ) اهـ.

 

على أننا مع كل هذا لا ننكر أن هناك من يبتليهم الله بالحسد والبغض لآل البيت بكل الأحوال ولكن الاشتغال بهؤلاء لا يعنينا.

 

لا أدري أين تهرب مروءة الواحد منا وهو يريق ماء وجهه ويلوم بعض المحبين على تقصيرهم في تعظيمه والأدب مع شخصه وذاته.

 

لو أنك تطلب من هذا الإنسان أن يعطيك مائة ريال وتلح في طلبها وتعاتبه فيها .. لكان في غاية المهانة والقبح ، ولكنه أحسن وخير لك من أن تطلب منه أن يحترمك.

 

تدري لماذا طلب المائة ريال أحسن؟

 

أولاً : لأن المائة ريال قد تشتري بها حبة طماطم مثلاً فتأكلها وتجعلها في بطنك، فهناك فائدة دنيوية قد تحصل عليها ، ولأجلها ارتكبت مهانة الطلب ، ولكن ماذا تستفيد عندما تطلب منه احترامك ، هل تشبع باحترام الناس ؟ أو تأتيك العافية ؟ أو يزداد قربك من الله أو ماذا ؟!

 

وثانياً : لأن قلوب الناس أغلى عندهم من أموالهم ، فمن يطلبهم التعظيم والاحترام أثقل عليهم ممن يطلبهم المال وأسوأ حالاً عندهم.

 

وقد وجدتُ أن الآداب المتعلقة بالتعامل مع شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحترامه كثيراً ما تسكت عنها الأحاديث ويتولى الله تعالى بنفسه بيانها بالتفصيل؛ صيانة لمقام حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم عن أن تنخدش كرامته في أعين الناس بأمره لهم باحترامه، وإن كان ذلك من دين الله وشرعه، فعندما أساء بعضهم الأدب في خطابه أنزل ربنا تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا)، بل حتى مستوى الصوت في الخطاب مع النبي صلى الله عليه وآله وكيف ينبغي أن يكون قال فيه تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض).

 

وعندما أبطأ الضيوف في منزله عليه الصلاة والسلام وسكت عن أمرهم بالخروج حياء وكرماً أنزل الله تعالى قوله : (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناطرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا...) وهكذا جعل يفصل آداب الزيارة النبوية والدخول على حضرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، وبيَّن سبب ذلك فقال: (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق)، فهكذا يعلمنا الله آداب الدخول على حبيبه مع أننا نتعلم آداب الدخول إلى حضرة الله منه عليه الصلاة والسلام حيث قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وكأن الله تعالى يقوله له: علِّم عبادي كيف يدخلون إلى حضرتي وأنا أعلمهم كيف يدخلون إلى حضرتك .

 

فإن رأيت أخي الشريف تقصيراً من أحد في حقك .. فليكن الأصل في تعاملك أن يسعك ما وسع جدك عليه الصلاة والسلام من الحياء والتغاضي.

 

نعم ؛ ربما تستنطقنا بفضائل آل البيت وتحملنا على تذكير الناس بحرمتهم أمانة التبليغ ومسؤولية الدعوة، ولا حرج في ذلك ، بل هو مطلوب حيث كان بدافع من إرادة الخير للمخاطب وإرشاده إلى ما يتقرب به إلى الله دون أن يشوب هذا الدافع شيء من حظ النفس في لذة الجاه ، ودون أن يكون التعظيم مطلوباً لذات المتكلم من حيث هي، وتفصيل علامات حصول هذا تخرجنا عما نحن بصدده.

وإنما يكون ذلك غالباً على سبيل التذكير الجماعي والدعوة العامة، ومع ذلك فإن من تمام الحرص على انتفاع المدعوين أن يجعل ذلك على لسان غير أهل البيت في بعض الأحيان ؛ فإن النفوس ربما اتهمتهم في طلب ما يعود نفعه ظاهراً إليهم ، فينفِّرُهُمْ ذلك عن القبول.

 

وقد سمعت من والدي متع الله به أن الجد محمد بن سالم رحمه الله عندما كان يخرج للدعوة إلى الله كان يترك التذكير بما ثبت من فضائل الآل ورعاية حرمتهم لمن يصحبونه من المشايخ ؛ كالشيخ فضل بن محمد بافضل ، والشيخ محفوظ بن عثمان ؛ لأن هذا منهم أقرب إلى قبول الناس؛ رحمة منه بالخلق وحرصاً عليهم.

 

ولا أفهم كيف يسمح بعض الأشراف لنفسه بمعرة الاستنكاف عن أخذ العلم من متأهل صالح للإفادة بذريعة أنه ليس من آل البيت، فيتوقى التلقي عنه إن تأتى ، وإلا .. تلقى عنه على حياء ومضض!

أو يتثاقل بعضنا بذل ما يستحقه الفقيه والعالم وصاحب الفضل من غير آل البيت من الاحترام والتوقير والتقديم في المجالس إلى غير ذلك بسبب أنه ليس من آل البيت ؟!

لا ننكر أن الانتساب إلى بيت النبوة ميزة ونعمة من الله، لكن منذ متى كان عدم الانتساب إلى بيت النبوة ذنباً وخطأ يغمط به صاحبه ما هو أهل له من التكريم !

أو يستثقل بعضنا الاختلاط والقرب من غير آل البيت حتى ربما كره أن يقوم مع أحدهم في الزفين مثلاً لأنه يراه دونه، ويكثر مثل هذا بين النساء !

 

هل لهذا من معنى وتفسير سوى الكبر والغرور!

 

ثم يأتي من يتوهم أن هذا من المحافظة على عادات السلف !!

 

وأكرر ما به بدأت وأقول : لست - والعياذ بالله - ممن يهوِّن من شأن آل البيت، أو ممن يجعل من أخطاء بعضهم ممحاة يمسح بها ما ثبت من فضائلهم، حاشا لله، ولا أقول إن الآفة التي تحدثت عنها قد عمت جميع آل البيت، حاشا وكلا، بل هو أمر ابتلي به بعضنا وأسأل الله لنا الخلاص ، وإنما أردت بكتابة هذا أن أنبه إلى ما ينبغي أن يكون عليهم حالهم في مقابلة إساءة الآخرين على النحو الذي فصلته وقدمته.

 

والله تعالى أعلم

تعليقات

  1. السلا م عليكم
    شكرا على اهتمامكم بهذه المسألة .
    وجزاكم الله احسن الجزاء
    Tulisan ini Harus di terjemahkan ke smua bahasa daerah di indoneaia. Dan diajarkan kepada para penerus yang semakin terlena dan manja, #salam Bikaolarobbi

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مع ألفية التأليف

لحظات الألم